نَسِيبَة المَازِنِيَّة
* * *
((ما التفتّ يوم أُحُد يميناً ولا شمالاً إلا ورأيتُ أمّ عُمَارة تُقاتل دوني)) [رسول الله صلى الله عليه وسلم]
………
((أنتم على موعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة في آخر الثلث الأوّل من الليل)) .
أسرّ مصعب بن عُمير بهذه الكلمة إلى واحد من مُسلِمي ((يثرب)) ، فسرى الخبر بينهم سرَيَان النّسيم في سُرعةٍ ، وخِفّةٍ ، وهدوء .
وأحيط به المسلمون الذين تسلّلوا من المدينة ، واندسّوا بين جموع حجّاج المشركين الوافدين على مكّة من كل صوب .
وأقبل الليل فاستسلم حُجّاج المشركين إلى النوم … وجعلوا يغُطّون في نوم عميق بعد يوم جاهد متعب قضوه في التّطواف حول الأوثان … والذّبح للأصنام …
لكِنّ أصحاب مصعب بن عُمير مِن مُسلِمي ((يثرب)) لم يغمض لهم جفن … وكيف لِجفونهم أن تغمُضَ؟.! .
وقلوبهم
تخفق بين فرحة باللقاء الذي قطعوا من أجله الصحاري الواسعة والأراضي
الجرداء ، وأفئدتهم تكاد تطير من بين ضلوعهم شوقاً لرؤية نبيّهم الحبيب
صلوات الله وسلامه عليه .
فقد آمن به أكثرهم قبل أن يسعدُوا بلُقياه …
وتعلّقوا به قبل أن تكتحل أعينهم بمرآه …
* * *
وفي آخر الثلث الأوّل من أوسط أيام التشريق ، وعند ((العقبة)) في ((مِنَى)) تمّ اللقاء الكبير في نجوة مِن قريش …
فلقد
تقدّم اثنان وسبعون رجلاً من النبي صلوات الله وسلامه عليه … ووضعوا
أيديهم في يديه واحداً بعد آخر مبايعين على أن يمنعوه ممّا يمنعون منه
نساءهم وأولادهم …
ولمّا
انتهى الرجال من البيعة تقدّمت امرأتان فبايعتا على ما بايع عليه الرجال …
ولكن من غير مُصافحة … ذلك لأنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لا يُصافح
النّساء .
وقد كانت إحدى هاتين المرأتين تعرف بأمّ منيعٍ ـ أمّ مَنيع: هي أسماء بنت عمرو بن عدي بن ياسر الأنصارية السلمية ؛ أمّ الصحابي مُعاذ بن جبل ـ … أمّا الأخرى فهي نسيبة بنت كعب المازنيّة المُكنّاة بأمّ عُمَارة .
* * *
عادت
أم عمارة إلى يثرب فَرِحةٍ بما أكرمها الله به من لقاء الرسول الأعظم صلى
الله عليه وسلم ؛ عاقدةٍ العزم على الوفاء بشروط البَيْعَة … ثمّ مضت
الأيّام سِراعاً ، حتّى كان يوم ((أُحُدٍ)) ، وكان لأمّ عُمارة فيه شأن
وأيّ شأن ؟! …
خرجت أمّ عمارة إلى أُحُدٍ تحمل سقاءَها لتروي ظمأ المجاهدين في سبيل الله .
ومعها
لفائفها لتضمّد جراحهم … ولا عجب فقد كان لها في المعركة زوج وثلاثة أفئدة
: هم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ووَالدها حبيبُ بن زيد ، وعبد
اللهِ … وذلك بالإضافة إلى إخوتها من المسلمين الذّائدين عن دين الله
المُنافحين عن رسول الله .
ثمّ
كان ما كان يومَ ((أحُدٍ)) … فلقد رأت أمّ عُمارة بعينيها كيف تحوّل نصرُ
المسلمين إلى هزيمة كبرى … وكيف أخذ القتلُ يشتدّ في صفوف المسلمين
فيتساقطون على أرض المعركة شهيداً إثر شهيد …
وكيف
زُلزِلت الأقدام ، فتفرّق الرجال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى لم
يبق معه إلا عشرة أو نحو من عشرة … ممّا جعل صارخَ الكُفّار يُنادي :
لقد قُتِل محمد … لقد قتل محمد …
عند ذلك ألقت أمّ عُمارة سقاءها ، وانبرت إلى المعركة كالنّمرة التي قُصِد أشبالها بِشرّ …
ولنترك لأمّ عُمارة نفسها الحديث عن هذه اللحظات الحاسمات ، فليس كمِثلها من يستطيع تصويرها بدِقّةٍ وصدقٍ .
قالت أمّ عُمارة :
خرجتُ
أوّل النّهار إلى ((أحُدٍ)) ومعي سقاء أسقي منه المُجاهدين حتّى انتهيتُ
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والنصر والقوّة له ولِمَن معه …
ثمّ
ما لبِثَ أنِ انكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما بقيَ
إلا في نفر قليل ما يزيدون على العشرة … فمِلتُ إليه أنا وزوجي … وأحطنا به
إحاطة السّوار بالمعصم ، وجعلنا نذُودُ عنه بسائر ما نملِكه من قوّة وسلاح
…
ورآني الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ولا تُرسَ معي أقي به نفسي من ضربات المشركين .
ثمّ أبصر رجلاً مولّياً ومعه تُرسٌ فقال له :
((اِلْقِ تُرسكَ إلى مَن يُقاتل)) فألقى الرجل تُرسه ومضى … فأخذته وجعلت أتترّس به عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
وما زلت أضارب عن النبي بالسيف … وأرمي دونه بالقوس حتّى أعجزتني الجراح ..
وفيما نحن كذلك أقبل ((ابن قَمِئَة)) كالجمل الهائج وهو يصيح :
أين محمد ؟ … دُلّوني على محمد .
فاعترضتُ
سبيله أنا ومصعب بن عُمير ، فصرع مُصعباً بسيفه وأرداه قتيلاً … ثمّ ضربني
ضربةً خلّفت في عاتِقي جُرحاً غائراً … فضربته على ذلك ضربات ، ولكِنّ
عدوّ الله كانت عليه دِرعان … ثمّ أتبعت نسيبة المازنيّة تقول :
وفيما
كان ابْني يُناضل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرَبَهُ أحدُ المشركين
ضربةً كادت تقطع عضُده … وجعل الدم يتفجّر من جرحه الغائر …
فأقبلت عليه ، وضمّدت جُرحه ، وقلت له :
اِنهض يا بُنيّ وجالِد القوم …
فالتفتَ إليَّ الرسول صلوات الله وسلامه عليه وقال :
((ومَن يُطيقُ ما تُطيقين يا أمّ عُمارة)) ؟! .
ثمّ أقبل الرجل الذي ضرب ابني ، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام :
((هذا ضارِبُ ابنكِ يا أمّ عُمارة)) .
فما أسرع أن اعترضت سبيله وضربتُهُ على ساقه بالسيف ؛ فسقط صريعاً على الأرض …
فأقبلنا عليه نتعاوره بالسيوف ونطعنهُ بالرّماح حتّى أجهزنا عليه ، فالتفتَ إليّ النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم مُبتَسماً وقال :
((لقد اقتصَصْتِ منهُ يا أمّ عُمارة …
والحمد لله الذي أظفركِ به …
وأراكِ ثأركِ بعينِكِ)) .
* * *
لم
يكن ولدا أمّ عُمارة أقلّ شجاعة وبذلاً من أمّهما وأبيهما ، ولا أدنى
تضحيةً وفداءً منهما … فالولدُ سِرّ أمّه وأبيه ، وصورة صادقة عنهما .
حدّث ابنها عبد الله قال :
شهِدتُ ((أحُداً)) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلمّا تفرّق الناس عنه دنَوتُ منه أنا وأمّي ندافع عنه ، فقال :
((اِبنُ أمّ عُمارة؟)) .
قلتُ : نعم .
قال : اِرمِ …
فرميتُ
بين يديه رجلاً من المشركين بحجرٍ فوقع على الأرض ، فما زلتُ أعلوه
بالحجارة حتى جعلتُ عليه منها حِملاً ، والنبي عليه الصلاة والسلام ينظر
إليّ ويبتسم …
وحانت منه التفاتة فرأى جُرح أمّي على عاتقها يتصبّب منه الدم فقال :
((أمّكَ … أمّكَ … اِعصِب جُرحها ، بارك الله عليكم أهل بيتٍ …
لَمُقامُ أمّكَ خيرٌ من مَقامِ فلانٍ وفلان … رحِمكم اللهُ أهلَ بيتٍ)) .
فالتفتت إليه أمّي وقالت :
اِدعُ الله لنا أن نُرافِقكَ في الجنّةِ يا رسول الله .
فقال :
((اللهمّ اجعلهُم رُفقائي في الجنّة)) .
فقالت أمّي : ما أبالي بعد ذلك ما أصابني في الدنيا .
ثمّ عادت أمّ عُمارة مِن ((أحُدٍ)) بجُرحها الغائر وهذه الدعوة التي دعا لها بها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم .
وعادَ النبي عليه الصلاة والسلام مِن ((أحُدٍ)) وهو يقول :
((ما التَفتّ يومَ أحُدٍ يميناً ولا شِمالاً إلا ورأيتُ أمّ عُمارةَ تقاتِلُ دُوني)) .
* * *
تمرّست أمّ عُمارة يوم أحُدٍ على القتال ؛ فأتقنته … وذاقت حلاوة الجهاد في سبيل الله ؛ فما عادت تُطيق عنه صبراً .
وقد كُتِبَ لها أن تشهد مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه أكثر المشاهد …
فحضرت معه الحُدَيبيّة ، وخَيبَراً … وعُمرَةَ القَضيّةَ ، وحُنَينَاً … وبيعَةَ الرّضوان …
ولكنّ ذلك كلّه لا يُعدّ شيئاً إذا قيسَ بما كان منها يوم ((اليمَامَةِ)) على عهد الصّدّيق رضي الله عنها وعنه .
* * *
تبدأ قصّة أمّ عُمارة مع يوم ((اليمامة)) مُنذ عهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه .
فقد
بعث الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ابنها حبيب بن زيد برسالة إلى
مُسيلَمَة الكذّاب … فغدر مُسيلمة بحبيب وقتلَه قتلةً تقشعرّ منها الجلود .
ذلك أنّ مسيلمة قيّد حبيباً ثمّ قال له : أتشهدُ أنّ محمداً رسول اللهِ ؟ .
فقال : نعم .
فقال مسيلمة : أتشهدُ أنّي رسول اللهِ ؟ .
فقال : لا أسمع ما تقول .
فقطعَ منه عُضواً … ثمّ ما زال مُسيلمة يعيد عليه السؤال نفسه ، فيردّ عليه الجواب نفسه … لا يزيد عليه ولا ينقص …
وكان في كلّ مرّة يقطع منه عضواً حتّى فاضت روحه الطّاهرة ، وذلك بعد أن ذاق من العذاب ما تتزلزلُ منه الصخور الصلبة .
* * *
نعى النّاعي حبيب بن زيد إلى أمّه نسيبة المازنيّة ما زادت على أن قالت :
من أجلِ مثل هذا الموقف أعدَدتُهُ … وعِند اللهِ احتسبته …
لقد بايع الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة صغيراً … ووفى له اليوم كبيراً …
ولئن أمكنني اللهُ مِن مُسيلمة لأجعلنّ بناتِهِ يلطمنَ الخدود عليه …
* * *
لم يبطئ اليوم الذي تمنّته نسيبة كثيراً … حيث أذّن مؤذن أبي بكر في المدينة أن حيّ على قتال المُتنَبّئ الكذّاب مُسيلمة …
فمضى المسلمون يحثّون الخُطا إلى لِقائه ، وكان في الجيش أمّ عُمارة المُجاهدة الباسلة ووَلدها عبد الله بن زيد .
ولمّا
التقى الجمعان وحمِيَ وطيس المعركة كان يترصّد لِمُسيلمة نفرٌ من المسلمين
وعلى رأسهم أمّ عُمارة التي تُريد أن تنتقم لابنها الشّهيد … ووحشي بن
حربٍ قاتل حمزة يوم ((أحُدٍ)) … فقد كان يُريدُ أن يقتل شرّ الناس وهو مؤمن
؛ بعد أن قتل أحد أخيار الناس وهو مُشرِك .
* * *
لم تستطيع أمّ عُمارة أن تصِلَ إلى مُسيلمة بعد أن قُطِعت يدهَا في المعركة … وأثخنتها الجراح …
لكنّ وحشي بن حرب ، وأبا دُجانة صاحب سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلا إلى مُسيلمة وضرباه عن يدٍ واحدةٍ …
فقد طعنهُ وحشي بالحربةِ … وضربَهُ أبو دُجانة بالسيف .. فخَرَّ صريعاً في طرفةِ عينٍ .
* * *
عادت أمّ عُمارة بعد ((اليمامة)) إلى المدينة بيدٍ واحدةٍ ومعها ابنُها الوحيد .
أمّا يدُها الأخرى فقد احتسبتها عند الله كما احتسبت مِن قبل ولدها الشّهيد .
ولِمَ لا تحتسِبهما ؟! …
ألم تقُل للرسول عليه الصلاة والسلام : اِدعُ الله لنا أن نُرافِقَكَ في الجنّة …
فقال الرسول صلوات الله وسلامه عليه : ((اللهمّ اجعلهم رَفاقي في الجنّة)) .
فقالت : ما أبالي بعدَ ذلك ما أصابني في الدنيا …
* * *
رضِيَ الله عن أمّ عُمارة وأرضاها ؛ فقد كانت طِرازاً فرَيداً بينَ النّساءِ المؤمناتِ …
وأنمُوذجاً فذاً بينَ المُجاهِداتِ الصّابِراتِ .
المصدر
كتاب صور من حياة الصحابيات للدكتورعبد الرحمن رأفت الباشا رحمه الله
* * *
((ما التفتّ يوم أُحُد يميناً ولا شمالاً إلا ورأيتُ أمّ عُمَارة تُقاتل دوني)) [رسول الله صلى الله عليه وسلم]
………
((أنتم على موعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة في آخر الثلث الأوّل من الليل)) .
أسرّ مصعب بن عُمير بهذه الكلمة إلى واحد من مُسلِمي ((يثرب)) ، فسرى الخبر بينهم سرَيَان النّسيم في سُرعةٍ ، وخِفّةٍ ، وهدوء .
وأحيط به المسلمون الذين تسلّلوا من المدينة ، واندسّوا بين جموع حجّاج المشركين الوافدين على مكّة من كل صوب .
وأقبل الليل فاستسلم حُجّاج المشركين إلى النوم … وجعلوا يغُطّون في نوم عميق بعد يوم جاهد متعب قضوه في التّطواف حول الأوثان … والذّبح للأصنام …
لكِنّ أصحاب مصعب بن عُمير مِن مُسلِمي ((يثرب)) لم يغمض لهم جفن … وكيف لِجفونهم أن تغمُضَ؟.! .
وقلوبهم
تخفق بين فرحة باللقاء الذي قطعوا من أجله الصحاري الواسعة والأراضي
الجرداء ، وأفئدتهم تكاد تطير من بين ضلوعهم شوقاً لرؤية نبيّهم الحبيب
صلوات الله وسلامه عليه .
فقد آمن به أكثرهم قبل أن يسعدُوا بلُقياه …
وتعلّقوا به قبل أن تكتحل أعينهم بمرآه …
* * *
وفي آخر الثلث الأوّل من أوسط أيام التشريق ، وعند ((العقبة)) في ((مِنَى)) تمّ اللقاء الكبير في نجوة مِن قريش …
فلقد
تقدّم اثنان وسبعون رجلاً من النبي صلوات الله وسلامه عليه … ووضعوا
أيديهم في يديه واحداً بعد آخر مبايعين على أن يمنعوه ممّا يمنعون منه
نساءهم وأولادهم …
ولمّا
انتهى الرجال من البيعة تقدّمت امرأتان فبايعتا على ما بايع عليه الرجال …
ولكن من غير مُصافحة … ذلك لأنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لا يُصافح
النّساء .
وقد كانت إحدى هاتين المرأتين تعرف بأمّ منيعٍ ـ أمّ مَنيع: هي أسماء بنت عمرو بن عدي بن ياسر الأنصارية السلمية ؛ أمّ الصحابي مُعاذ بن جبل ـ … أمّا الأخرى فهي نسيبة بنت كعب المازنيّة المُكنّاة بأمّ عُمَارة .
* * *
عادت
أم عمارة إلى يثرب فَرِحةٍ بما أكرمها الله به من لقاء الرسول الأعظم صلى
الله عليه وسلم ؛ عاقدةٍ العزم على الوفاء بشروط البَيْعَة … ثمّ مضت
الأيّام سِراعاً ، حتّى كان يوم ((أُحُدٍ)) ، وكان لأمّ عُمارة فيه شأن
وأيّ شأن ؟! …
خرجت أمّ عمارة إلى أُحُدٍ تحمل سقاءَها لتروي ظمأ المجاهدين في سبيل الله .
ومعها
لفائفها لتضمّد جراحهم … ولا عجب فقد كان لها في المعركة زوج وثلاثة أفئدة
: هم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ووَالدها حبيبُ بن زيد ، وعبد
اللهِ … وذلك بالإضافة إلى إخوتها من المسلمين الذّائدين عن دين الله
المُنافحين عن رسول الله .
ثمّ
كان ما كان يومَ ((أحُدٍ)) … فلقد رأت أمّ عُمارة بعينيها كيف تحوّل نصرُ
المسلمين إلى هزيمة كبرى … وكيف أخذ القتلُ يشتدّ في صفوف المسلمين
فيتساقطون على أرض المعركة شهيداً إثر شهيد …
وكيف
زُلزِلت الأقدام ، فتفرّق الرجال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى لم
يبق معه إلا عشرة أو نحو من عشرة … ممّا جعل صارخَ الكُفّار يُنادي :
لقد قُتِل محمد … لقد قتل محمد …
عند ذلك ألقت أمّ عُمارة سقاءها ، وانبرت إلى المعركة كالنّمرة التي قُصِد أشبالها بِشرّ …
ولنترك لأمّ عُمارة نفسها الحديث عن هذه اللحظات الحاسمات ، فليس كمِثلها من يستطيع تصويرها بدِقّةٍ وصدقٍ .
قالت أمّ عُمارة :
خرجتُ
أوّل النّهار إلى ((أحُدٍ)) ومعي سقاء أسقي منه المُجاهدين حتّى انتهيتُ
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والنصر والقوّة له ولِمَن معه …
ثمّ
ما لبِثَ أنِ انكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما بقيَ
إلا في نفر قليل ما يزيدون على العشرة … فمِلتُ إليه أنا وزوجي … وأحطنا به
إحاطة السّوار بالمعصم ، وجعلنا نذُودُ عنه بسائر ما نملِكه من قوّة وسلاح
…
ورآني الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ولا تُرسَ معي أقي به نفسي من ضربات المشركين .
ثمّ أبصر رجلاً مولّياً ومعه تُرسٌ فقال له :
((اِلْقِ تُرسكَ إلى مَن يُقاتل)) فألقى الرجل تُرسه ومضى … فأخذته وجعلت أتترّس به عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
وما زلت أضارب عن النبي بالسيف … وأرمي دونه بالقوس حتّى أعجزتني الجراح ..
وفيما نحن كذلك أقبل ((ابن قَمِئَة)) كالجمل الهائج وهو يصيح :
أين محمد ؟ … دُلّوني على محمد .
فاعترضتُ
سبيله أنا ومصعب بن عُمير ، فصرع مُصعباً بسيفه وأرداه قتيلاً … ثمّ ضربني
ضربةً خلّفت في عاتِقي جُرحاً غائراً … فضربته على ذلك ضربات ، ولكِنّ
عدوّ الله كانت عليه دِرعان … ثمّ أتبعت نسيبة المازنيّة تقول :
وفيما
كان ابْني يُناضل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرَبَهُ أحدُ المشركين
ضربةً كادت تقطع عضُده … وجعل الدم يتفجّر من جرحه الغائر …
فأقبلت عليه ، وضمّدت جُرحه ، وقلت له :
اِنهض يا بُنيّ وجالِد القوم …
فالتفتَ إليَّ الرسول صلوات الله وسلامه عليه وقال :
((ومَن يُطيقُ ما تُطيقين يا أمّ عُمارة)) ؟! .
ثمّ أقبل الرجل الذي ضرب ابني ، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام :
((هذا ضارِبُ ابنكِ يا أمّ عُمارة)) .
فما أسرع أن اعترضت سبيله وضربتُهُ على ساقه بالسيف ؛ فسقط صريعاً على الأرض …
فأقبلنا عليه نتعاوره بالسيوف ونطعنهُ بالرّماح حتّى أجهزنا عليه ، فالتفتَ إليّ النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم مُبتَسماً وقال :
((لقد اقتصَصْتِ منهُ يا أمّ عُمارة …
والحمد لله الذي أظفركِ به …
وأراكِ ثأركِ بعينِكِ)) .
* * *
لم
يكن ولدا أمّ عُمارة أقلّ شجاعة وبذلاً من أمّهما وأبيهما ، ولا أدنى
تضحيةً وفداءً منهما … فالولدُ سِرّ أمّه وأبيه ، وصورة صادقة عنهما .
حدّث ابنها عبد الله قال :
شهِدتُ ((أحُداً)) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلمّا تفرّق الناس عنه دنَوتُ منه أنا وأمّي ندافع عنه ، فقال :
((اِبنُ أمّ عُمارة؟)) .
قلتُ : نعم .
قال : اِرمِ …
فرميتُ
بين يديه رجلاً من المشركين بحجرٍ فوقع على الأرض ، فما زلتُ أعلوه
بالحجارة حتى جعلتُ عليه منها حِملاً ، والنبي عليه الصلاة والسلام ينظر
إليّ ويبتسم …
وحانت منه التفاتة فرأى جُرح أمّي على عاتقها يتصبّب منه الدم فقال :
((أمّكَ … أمّكَ … اِعصِب جُرحها ، بارك الله عليكم أهل بيتٍ …
لَمُقامُ أمّكَ خيرٌ من مَقامِ فلانٍ وفلان … رحِمكم اللهُ أهلَ بيتٍ)) .
فالتفتت إليه أمّي وقالت :
اِدعُ الله لنا أن نُرافِقكَ في الجنّةِ يا رسول الله .
فقال :
((اللهمّ اجعلهُم رُفقائي في الجنّة)) .
فقالت أمّي : ما أبالي بعد ذلك ما أصابني في الدنيا .
ثمّ عادت أمّ عُمارة مِن ((أحُدٍ)) بجُرحها الغائر وهذه الدعوة التي دعا لها بها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم .
وعادَ النبي عليه الصلاة والسلام مِن ((أحُدٍ)) وهو يقول :
((ما التَفتّ يومَ أحُدٍ يميناً ولا شِمالاً إلا ورأيتُ أمّ عُمارةَ تقاتِلُ دُوني)) .
* * *
تمرّست أمّ عُمارة يوم أحُدٍ على القتال ؛ فأتقنته … وذاقت حلاوة الجهاد في سبيل الله ؛ فما عادت تُطيق عنه صبراً .
وقد كُتِبَ لها أن تشهد مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه أكثر المشاهد …
فحضرت معه الحُدَيبيّة ، وخَيبَراً … وعُمرَةَ القَضيّةَ ، وحُنَينَاً … وبيعَةَ الرّضوان …
ولكنّ ذلك كلّه لا يُعدّ شيئاً إذا قيسَ بما كان منها يوم ((اليمَامَةِ)) على عهد الصّدّيق رضي الله عنها وعنه .
* * *
تبدأ قصّة أمّ عُمارة مع يوم ((اليمامة)) مُنذ عهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه .
فقد
بعث الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ابنها حبيب بن زيد برسالة إلى
مُسيلَمَة الكذّاب … فغدر مُسيلمة بحبيب وقتلَه قتلةً تقشعرّ منها الجلود .
ذلك أنّ مسيلمة قيّد حبيباً ثمّ قال له : أتشهدُ أنّ محمداً رسول اللهِ ؟ .
فقال : نعم .
فقال مسيلمة : أتشهدُ أنّي رسول اللهِ ؟ .
فقال : لا أسمع ما تقول .
فقطعَ منه عُضواً … ثمّ ما زال مُسيلمة يعيد عليه السؤال نفسه ، فيردّ عليه الجواب نفسه … لا يزيد عليه ولا ينقص …
وكان في كلّ مرّة يقطع منه عضواً حتّى فاضت روحه الطّاهرة ، وذلك بعد أن ذاق من العذاب ما تتزلزلُ منه الصخور الصلبة .
* * *
نعى النّاعي حبيب بن زيد إلى أمّه نسيبة المازنيّة ما زادت على أن قالت :
من أجلِ مثل هذا الموقف أعدَدتُهُ … وعِند اللهِ احتسبته …
لقد بايع الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة صغيراً … ووفى له اليوم كبيراً …
ولئن أمكنني اللهُ مِن مُسيلمة لأجعلنّ بناتِهِ يلطمنَ الخدود عليه …
* * *
لم يبطئ اليوم الذي تمنّته نسيبة كثيراً … حيث أذّن مؤذن أبي بكر في المدينة أن حيّ على قتال المُتنَبّئ الكذّاب مُسيلمة …
فمضى المسلمون يحثّون الخُطا إلى لِقائه ، وكان في الجيش أمّ عُمارة المُجاهدة الباسلة ووَلدها عبد الله بن زيد .
ولمّا
التقى الجمعان وحمِيَ وطيس المعركة كان يترصّد لِمُسيلمة نفرٌ من المسلمين
وعلى رأسهم أمّ عُمارة التي تُريد أن تنتقم لابنها الشّهيد … ووحشي بن
حربٍ قاتل حمزة يوم ((أحُدٍ)) … فقد كان يُريدُ أن يقتل شرّ الناس وهو مؤمن
؛ بعد أن قتل أحد أخيار الناس وهو مُشرِك .
* * *
لم تستطيع أمّ عُمارة أن تصِلَ إلى مُسيلمة بعد أن قُطِعت يدهَا في المعركة … وأثخنتها الجراح …
لكنّ وحشي بن حرب ، وأبا دُجانة صاحب سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلا إلى مُسيلمة وضرباه عن يدٍ واحدةٍ …
فقد طعنهُ وحشي بالحربةِ … وضربَهُ أبو دُجانة بالسيف .. فخَرَّ صريعاً في طرفةِ عينٍ .
* * *
عادت أمّ عُمارة بعد ((اليمامة)) إلى المدينة بيدٍ واحدةٍ ومعها ابنُها الوحيد .
أمّا يدُها الأخرى فقد احتسبتها عند الله كما احتسبت مِن قبل ولدها الشّهيد .
ولِمَ لا تحتسِبهما ؟! …
ألم تقُل للرسول عليه الصلاة والسلام : اِدعُ الله لنا أن نُرافِقَكَ في الجنّة …
فقال الرسول صلوات الله وسلامه عليه : ((اللهمّ اجعلهم رَفاقي في الجنّة)) .
فقالت : ما أبالي بعدَ ذلك ما أصابني في الدنيا …
* * *
رضِيَ الله عن أمّ عُمارة وأرضاها ؛ فقد كانت طِرازاً فرَيداً بينَ النّساءِ المؤمناتِ …
وأنمُوذجاً فذاً بينَ المُجاهِداتِ الصّابِراتِ .
المصدر
كتاب صور من حياة الصحابيات للدكتورعبد الرحمن رأفت الباشا رحمه الله