عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ
((باركَ اللهُ لكَ فيما أعطيتَ ، وباركَ الله لكَ فيما أمسكتَ)) [مِن دعاءِِ الرسول صلى الله عليه وسلم لَه]
هو أحد الثمانية السّابقين إلى الإسلام …
وأحد العشرة المُبشّرين بالجنّة …
وأحدُ الستة أصحاب الشورى يوم اختيار الخليفة بعد الفاروق …
وأحد النفر الذين كانوا يُفتون في المدينة ورسول الله صلوات الله وسلامه عليه حيّ قائم بين ظهرانَي المسلمين …
كان اسمه في الجاهليّة عبد عمرو ، فلمّا أسلم دعاه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن .
ذلكم هو عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ رضي الله عنه وأرضاه .
* * *
أسلم عبد الرحمن بن عوف قبل أن يدخل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم دار ((الأرْقم)) -
دار الأرقم: دار في مكّة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو فيها إلى
الإسلام ، وهي للأرقم بن عبد مناف المخزومي ، وكانت تسمّى ((دار الإسلام)) -
وذلك بعد إسلام الصّدّيق بيومين اثنين .
ولقِيَ
من العذاب في سبيل الله ما لَقِيهُ المسلمون الأوّلون فصبَرَ وصبروا ،
وثبتَ وثبتوا ، وصدقَ وصدقوا ، وفرّ بدينة إلى ((الحَبَشة)) كما فرّ كثير
منهم بدينه .
ولمّا أُذِنَ للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالهجرة إلى المدينة كان في طليعة المهاجرين الذين هاجروا لله ورسوله .
ولمّا
أخذَ الرسول صلوات الله عليه يؤاخي بين المهاجرين والأنصار آخى بينه وبين
سعدِ بن الربيع الأنصاريّ رضي الله عنه ، فقال سعدٌ لأخيه عبد الرحمن بن
عوف :
أي
أُخيّ … أنا أكثرُ أهل المدينة مالاً ، وعِندي بُستانانِ ، ولي امرأتانِ ؛
فانظر أي بُستانيّ أحبّ إليك حتى أخرجَ لك عنه ، وأيّ امرأتيّ أرضى عندك
حتى أطلّقها لك .
فقال
عبد الرحمن لأخيه الأنصاريّ : باركَ الله لكَ في أهلكَ ومالكَ … ولكن
دُلّني على السوق … فدلّه عليه فجعل يتّجرُ ، وطفِقَ يشتري ويبيع ، ويربحُ
ويدّخر .
وما هو إلا قليل حتى اجتمع لديه مهر امرأة فتزوّج ، وجاء الرسول عليه الصلاة والسلام وعليه طِيبٌ …
فقال له الرسول صلوات الله عليه: ((مَهْيَمْ يا عبد الرحمن)) - مِهْيَمْ: كلمة يمانِية تُفيد الاستفسار والتعجّب-.
فقال: تزوّجت …
فقال: ((وما أعطيت زوجك من المهرِ ؟!)) .
قال: وزن نواة من ذهب …
قال صلى الله عليه وسلم: ((أوْلِمْ ، ولو بشاة ، بارك الله لكَ في مالِك)) …
قال عبد الرحمن: فأقبلتِ الدنيا عليّ حتى رأيتني لو رفعتُ حجراً لتوقّعت أن أجِد تحته ذهباً أو فضّة .
* * *
وفي يوم ((بدر)) جاهد عبد الرحمن بن عوف في الله حقّ جهاده فأردى عدوّ الله عُمير بن عثمان بن كعب التّيميّ .
وفي
يوم ((أحُد)) ثبتَ حين زُلزلتِ الأقدام ، وصمدَ حين فرّ المُنهزمون ، وخرج
من المعركة وفيه بضعة وعشرون جرحاً ، بعضها عميق تدخلُ فيه يدُ الرجل .
ولكنّ جهاد عبد الرحمن بن عوف بنفسه أصبح يُعد قليلاً إذا قيس بجهاده بماله .
فها هو ذا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يريد أن يجهّز سريّة ، فوقف في أصحابه وقال: ((تصدّقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً)) .
فبادر عبد الرحمن بن عوف إلى منزله وعاد مسرعاً وقال :
يا رسول الله عندي أربعة آلاف : ألفان منها أقرضتهما ربّي ، وألفان تركتهما لعيالي .
فقال الرسول صلوات الله وسلامه عليه :
((باركَ الله لكَ فيما أعطيتَ … وباركَ الله لكَ فيما أمسكتَ))
* * *
ولمّا
عزم الرسول عليه الصلاة والسلام على غزوة ((تبوك)) - وهي آخر غزوة غزاها
في حياته - كانت الحاجة إلى المال لا تقلّ عن الحاجة إلى الرجال؛ فجيش
الروم وافرُ العَدد كثير العُدد ، والعامُ في المدينة عام جدبٍ ، والسفر
طويل ، والمؤونة قليلة ، والرّواحلُ أقل حتّى إنّ نفراً من المؤمنين جاؤوا
إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه في حُرقة أن يأخذهم معه فردّهم
لأنّه لم يجد عنده ما يحملهم عليه ، فتولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً
ألا يجدوا ما يُنفقون .. فسمّوا بالبَكّائين ، وأطلِق على الجيش اسم ((جيشِ
العسرَة)) .
عِند
ذلك أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه بالنفقة في سبيل الله واحتساب
ذلك عند الله ، فهبّ المسلمون يستجيبون لِدعوة النبي عليه الصلاة والسلام ،
وكان في طليعة المُتصدّقين عبد الرحمن بن عوف ؛ فقد تصدّق بمائتي أوقية من
الذهب ، فقال عمر بن الخطاب للنبي عليه السلام:
إنّي
لا أرى عبد الرحمن إلا مرتكباً إثماً ؛ فما تركَ لأهله شيئاً … فقال
الرسول عليه الصلاة والسلام : ((هل تركتَ لأهلك شيئاً يا عبد الرحمن ؟)) .
فقال: نعم … تركتُ لهم أكثر ممّا أنفقت وأطيب .
قال صلى الله عليه وسلم: ((كَم ؟!)) .
قال: ما وعدَ الله ورسوله منَ الرزق والخير والأجرِ .
* * *
ومضى
الجيش إلى تبوك … وهناك أكرم الله عبد الرحمن بن عوف بما لم يُكرم به
أحداً من المسلمين ، فقد دخلَ وقت الصلاة ، ورسول الله صلوات الله عليه
غائب ؛ فأمّ المسلمين عبد الرحمن بن عوف ، وما كادت تتمّ الركعة الأولى حتى
لحِقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمصلّين ، واقتدى بعبد الرحمن بن
عوف وصلّى خلفَه …
فهل هنالِكَ أكرم كرامة وأفضل فضلاً من أن يغدو أحدٌ إماماً لسيّد الخلقِ ، وإمام الأنبياء محمد بن عبد الله ؟!! .
* * *
ولمّا
لحِق الرسول عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى جعلَ عبد الرحمن بن عوف
يقوم بمصالِح أمهات المؤمنين ، فكان ينهضُ بحاجاتهنّ … فيخرج معهنّ إذا
خرجنَ ، ويحُجّ معهنّ إذا حجَجْنَ ويجعل على هوادِجهنّ الطّيالِسَة - الطيالسة: أكسية خضر يستعملها الخواصّ -
، وينزل بهنّ في الأماكن التي تسُرهنّ ، وتِلكَ منقبة من مناقب عبد الرحمن
بن عوف ، وثقة من أمهات المؤمنين بهِ يحقّ له أن يعتزّ بها ويفخر .
* * *
ولقد
بلغ من برّ عبد الرحمن بن عوف بالمسلمين وأمّهات المؤمنين أنّه باعَ أرضاً
له بأربعين ألف دينار ؛ فقسمها كلها في بني ((زُهرة)) ـ بني زهرة: قوم آمنة بنت وهب أمّ الرسول صلى الله عليه وسلم ـ
وفقراء المسلمين والمهاجرين ، وأزواج النبي عليه الصلاة والسلام ، فلمّا
بعثَ إلى أمّّ المؤمنين عائشة رضوان الله عليها بما خصّها من ذلك المال ؛
قالت: مَن بعثَ هذا المال ؟ .
فقيل: عبد الرحمن بن عوف .
فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يحنو عليكنّ مِن بعدي إلا الصّابرون)) .
* * *
وقد
استجيبت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام وبُورك لعبد الرحمن بن عوف في
ماله ، فقد أخذت تجارته تنمو وتزداد ، وطفِقت عِيرُهُ تتردّد ذاهبة من
المدينة أو عائدة إليها تحمل لأهلها القمح ، والدقيق ، والدّهن ، والثياب ،
والآنية ، والطّيب ، وكل ما يحتاجون إليه … وتنقل ما يفضل عن حاجتهم ممّا
يُنتجونه .
* * *
وفي ذات يوم قدِمت عيرُ عبد الرحمن بن عوف على المدينة ، وكانت مؤلّفة من سبعمائة راحلة …
نعم سبعمائة راحِلة … وهي تحمل على ظهورها الطعام ، والمتاع ، وكل ما يحتاج إليه الناس .
فما إن دخلتِ المدينة حتّى رجّت الأرض بها رجّا ، وسُمِع لها دوي وضجّة ، فقالت عائشة رضوان الله عليها:
ما هذه الرجّة؟ .. فقيل لها: عيرٌ لعبد الرحمن بن عوف … سبعمائة ناقة تحملُ البُرّ ، والدقيق ، والطعام .
فقالت عائشة رضوان الله عليها: باركَ الله لهُ فيما أعطاه في الدنيا ، ولَثوابُ الآخرة أعظم .
وقبلَ
أن تبرُك النوق ، كان الخبرُ قد نُقِلَ إلى عبد الرحمن بن عوف ، فما إن
لامَست مقالة أمّ المؤمنين سَمعَهُ حتى طار مسرعاً إلى عائشة وقال:
أُشهدُكِ يا أمّه أنّ هذِه العير جميعها بأحمالها وأقتابها أحلاسها في سبيل الله .
* * *
بقيت
دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام لِعبد الرحمن بن عوف بأن يُبارك الله له
تُظلّله ما امتدّت به الحياة ، حتّى غدا أغنى الصحابة غنىً وأكثرهم ثراءً …
لكِنَ عبد الرحمن بن عوف جعل ذلك المال كلّه في مرضاة الله ومرضاة رسوله ،
فكان يُنفقه بكلتا يديه يميناً وشمالاً ، وسرّاً وإعلاناً … حيث تصدّق
بأبعين ألف درهم من الفضة ، ثمّ أتبعها بأربعين دينارٍ ذهباً … ثم تصدّق
بمائتي أوقية من الذهب … ثمّ حمل مجاهِدين في سبيل الله على خمسمائة فرس ،
ثمّ حملَ مجاهدين آخرين على ألف وخمسمائة راحِلة .
ولمّا حضرت عبد الرحمن بن عوف الوفاة أعتقَ خلقاً كثيراً مِن مماليكه .
وأوصى لكل رجل بقيَ من أهلِ ((بدرٍ)) بأربعمائة دينارٍ ذهباً ، فأخذوها جميعاً ، وكان عددهم مائة .
وأوصى لكلّ واحدة من أمّهات المؤمنين بمالٍ جزيلٍ ؛ حتى إنّ أمّ المؤمنين عائشة - رضوان الله عليها- كثيراً ما كانت تدعو له فتقول:
((سقاهُ الله من ماءِ السّلسبيل)) .
ثمّ
إنّه بعد ذلك كلّه خلّف لِورثته مالاً لا يكاد يُحصيه العدّ … حيث تركَ
ألف بعير ، ومائة فرس ، وثلاثة آلاف شاة ، وكانت نساؤه أربعاً فبلغَ ربع
الثمن الذي خصّ كل واحدة منهنّ ثمانين ألفاً .
وتركَ من الذهب والفضة ما قسّم بين ورثته بالفؤوسِ حتى تأثّرت أيدي الرجال من تقطيعه .
كلّ ذلك بفضلِ دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُباركَ لهُ مَالِه .
* * *
لكنّ ذلك المال كلّه لم يفتن عبد الرحمن بن عوف ، ولم يغيّره ؛ فكان الناس إذا رأوه بين مماليكه لم يُفرّقوا بينه وبينهم .
وقد أتِيَ ذات يوم بطعام - وهو صائم- فنظرَ إليه ثمّ قال:
لقد قتِلَ مُصعب بن عُمير - وهو خيرٌ منّي - فما وجدنا لهُ إلا كفناً إن غطّى رأسه بدت رِجلاه ، وإن غطّى رجليه بدا رأسه .
ثمّ بسطَ الله لنا منَ الدنيا ما بسطَ …
وإنّي لأخشى أن يكونَ ثوابنا قد عجّل لنا …
ثمّ جعل يبكي وينشج حتى عافَ الطعام .
* * *
طوبى لِعبد الرحمن بن عوف وألفُ غِبطة …
فقد بشَّره بالجنّة الصّادق المَصدوق محمد بنُ عبدِ الله .
وحملَ جنازَتهُ إلى مثواه الأخير خال رسول الله سعدُ بن أبي وقّاص .
وصلّى عليه ذو النّورين عثمان بن عفّان .
وشيّعه أمير المؤمنين المُكرّم الوجه علي بن أبي طالب ، وهو يقول:
((اذهب فقد أدركتَ صَفوها ، وسَبقتَ زَيفَها يرحَمُكَ الله)) .
المصدر
كتاب صور من حياة الصحابة للدكتورعبد الرحمن رأفت الباشا رحمه الله
((باركَ اللهُ لكَ فيما أعطيتَ ، وباركَ الله لكَ فيما أمسكتَ)) [مِن دعاءِِ الرسول صلى الله عليه وسلم لَه]
هو أحد الثمانية السّابقين إلى الإسلام …
وأحد العشرة المُبشّرين بالجنّة …
وأحدُ الستة أصحاب الشورى يوم اختيار الخليفة بعد الفاروق …
وأحد النفر الذين كانوا يُفتون في المدينة ورسول الله صلوات الله وسلامه عليه حيّ قائم بين ظهرانَي المسلمين …
كان اسمه في الجاهليّة عبد عمرو ، فلمّا أسلم دعاه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن .
ذلكم هو عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ رضي الله عنه وأرضاه .
* * *
أسلم عبد الرحمن بن عوف قبل أن يدخل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم دار ((الأرْقم)) -
دار الأرقم: دار في مكّة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو فيها إلى
الإسلام ، وهي للأرقم بن عبد مناف المخزومي ، وكانت تسمّى ((دار الإسلام)) -
وذلك بعد إسلام الصّدّيق بيومين اثنين .
ولقِيَ
من العذاب في سبيل الله ما لَقِيهُ المسلمون الأوّلون فصبَرَ وصبروا ،
وثبتَ وثبتوا ، وصدقَ وصدقوا ، وفرّ بدينة إلى ((الحَبَشة)) كما فرّ كثير
منهم بدينه .
ولمّا أُذِنَ للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالهجرة إلى المدينة كان في طليعة المهاجرين الذين هاجروا لله ورسوله .
ولمّا
أخذَ الرسول صلوات الله عليه يؤاخي بين المهاجرين والأنصار آخى بينه وبين
سعدِ بن الربيع الأنصاريّ رضي الله عنه ، فقال سعدٌ لأخيه عبد الرحمن بن
عوف :
أي
أُخيّ … أنا أكثرُ أهل المدينة مالاً ، وعِندي بُستانانِ ، ولي امرأتانِ ؛
فانظر أي بُستانيّ أحبّ إليك حتى أخرجَ لك عنه ، وأيّ امرأتيّ أرضى عندك
حتى أطلّقها لك .
فقال
عبد الرحمن لأخيه الأنصاريّ : باركَ الله لكَ في أهلكَ ومالكَ … ولكن
دُلّني على السوق … فدلّه عليه فجعل يتّجرُ ، وطفِقَ يشتري ويبيع ، ويربحُ
ويدّخر .
وما هو إلا قليل حتى اجتمع لديه مهر امرأة فتزوّج ، وجاء الرسول عليه الصلاة والسلام وعليه طِيبٌ …
فقال له الرسول صلوات الله عليه: ((مَهْيَمْ يا عبد الرحمن)) - مِهْيَمْ: كلمة يمانِية تُفيد الاستفسار والتعجّب-.
فقال: تزوّجت …
فقال: ((وما أعطيت زوجك من المهرِ ؟!)) .
قال: وزن نواة من ذهب …
قال صلى الله عليه وسلم: ((أوْلِمْ ، ولو بشاة ، بارك الله لكَ في مالِك)) …
قال عبد الرحمن: فأقبلتِ الدنيا عليّ حتى رأيتني لو رفعتُ حجراً لتوقّعت أن أجِد تحته ذهباً أو فضّة .
* * *
وفي يوم ((بدر)) جاهد عبد الرحمن بن عوف في الله حقّ جهاده فأردى عدوّ الله عُمير بن عثمان بن كعب التّيميّ .
وفي
يوم ((أحُد)) ثبتَ حين زُلزلتِ الأقدام ، وصمدَ حين فرّ المُنهزمون ، وخرج
من المعركة وفيه بضعة وعشرون جرحاً ، بعضها عميق تدخلُ فيه يدُ الرجل .
ولكنّ جهاد عبد الرحمن بن عوف بنفسه أصبح يُعد قليلاً إذا قيس بجهاده بماله .
فها هو ذا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يريد أن يجهّز سريّة ، فوقف في أصحابه وقال: ((تصدّقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً)) .
فبادر عبد الرحمن بن عوف إلى منزله وعاد مسرعاً وقال :
يا رسول الله عندي أربعة آلاف : ألفان منها أقرضتهما ربّي ، وألفان تركتهما لعيالي .
فقال الرسول صلوات الله وسلامه عليه :
((باركَ الله لكَ فيما أعطيتَ … وباركَ الله لكَ فيما أمسكتَ))
* * *
ولمّا
عزم الرسول عليه الصلاة والسلام على غزوة ((تبوك)) - وهي آخر غزوة غزاها
في حياته - كانت الحاجة إلى المال لا تقلّ عن الحاجة إلى الرجال؛ فجيش
الروم وافرُ العَدد كثير العُدد ، والعامُ في المدينة عام جدبٍ ، والسفر
طويل ، والمؤونة قليلة ، والرّواحلُ أقل حتّى إنّ نفراً من المؤمنين جاؤوا
إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه في حُرقة أن يأخذهم معه فردّهم
لأنّه لم يجد عنده ما يحملهم عليه ، فتولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً
ألا يجدوا ما يُنفقون .. فسمّوا بالبَكّائين ، وأطلِق على الجيش اسم ((جيشِ
العسرَة)) .
عِند
ذلك أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه بالنفقة في سبيل الله واحتساب
ذلك عند الله ، فهبّ المسلمون يستجيبون لِدعوة النبي عليه الصلاة والسلام ،
وكان في طليعة المُتصدّقين عبد الرحمن بن عوف ؛ فقد تصدّق بمائتي أوقية من
الذهب ، فقال عمر بن الخطاب للنبي عليه السلام:
إنّي
لا أرى عبد الرحمن إلا مرتكباً إثماً ؛ فما تركَ لأهله شيئاً … فقال
الرسول عليه الصلاة والسلام : ((هل تركتَ لأهلك شيئاً يا عبد الرحمن ؟)) .
فقال: نعم … تركتُ لهم أكثر ممّا أنفقت وأطيب .
قال صلى الله عليه وسلم: ((كَم ؟!)) .
قال: ما وعدَ الله ورسوله منَ الرزق والخير والأجرِ .
* * *
ومضى
الجيش إلى تبوك … وهناك أكرم الله عبد الرحمن بن عوف بما لم يُكرم به
أحداً من المسلمين ، فقد دخلَ وقت الصلاة ، ورسول الله صلوات الله عليه
غائب ؛ فأمّ المسلمين عبد الرحمن بن عوف ، وما كادت تتمّ الركعة الأولى حتى
لحِقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمصلّين ، واقتدى بعبد الرحمن بن
عوف وصلّى خلفَه …
فهل هنالِكَ أكرم كرامة وأفضل فضلاً من أن يغدو أحدٌ إماماً لسيّد الخلقِ ، وإمام الأنبياء محمد بن عبد الله ؟!! .
* * *
ولمّا
لحِق الرسول عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى جعلَ عبد الرحمن بن عوف
يقوم بمصالِح أمهات المؤمنين ، فكان ينهضُ بحاجاتهنّ … فيخرج معهنّ إذا
خرجنَ ، ويحُجّ معهنّ إذا حجَجْنَ ويجعل على هوادِجهنّ الطّيالِسَة - الطيالسة: أكسية خضر يستعملها الخواصّ -
، وينزل بهنّ في الأماكن التي تسُرهنّ ، وتِلكَ منقبة من مناقب عبد الرحمن
بن عوف ، وثقة من أمهات المؤمنين بهِ يحقّ له أن يعتزّ بها ويفخر .
* * *
ولقد
بلغ من برّ عبد الرحمن بن عوف بالمسلمين وأمّهات المؤمنين أنّه باعَ أرضاً
له بأربعين ألف دينار ؛ فقسمها كلها في بني ((زُهرة)) ـ بني زهرة: قوم آمنة بنت وهب أمّ الرسول صلى الله عليه وسلم ـ
وفقراء المسلمين والمهاجرين ، وأزواج النبي عليه الصلاة والسلام ، فلمّا
بعثَ إلى أمّّ المؤمنين عائشة رضوان الله عليها بما خصّها من ذلك المال ؛
قالت: مَن بعثَ هذا المال ؟ .
فقيل: عبد الرحمن بن عوف .
فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يحنو عليكنّ مِن بعدي إلا الصّابرون)) .
* * *
وقد
استجيبت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام وبُورك لعبد الرحمن بن عوف في
ماله ، فقد أخذت تجارته تنمو وتزداد ، وطفِقت عِيرُهُ تتردّد ذاهبة من
المدينة أو عائدة إليها تحمل لأهلها القمح ، والدقيق ، والدّهن ، والثياب ،
والآنية ، والطّيب ، وكل ما يحتاجون إليه … وتنقل ما يفضل عن حاجتهم ممّا
يُنتجونه .
* * *
وفي ذات يوم قدِمت عيرُ عبد الرحمن بن عوف على المدينة ، وكانت مؤلّفة من سبعمائة راحلة …
نعم سبعمائة راحِلة … وهي تحمل على ظهورها الطعام ، والمتاع ، وكل ما يحتاج إليه الناس .
فما إن دخلتِ المدينة حتّى رجّت الأرض بها رجّا ، وسُمِع لها دوي وضجّة ، فقالت عائشة رضوان الله عليها:
ما هذه الرجّة؟ .. فقيل لها: عيرٌ لعبد الرحمن بن عوف … سبعمائة ناقة تحملُ البُرّ ، والدقيق ، والطعام .
فقالت عائشة رضوان الله عليها: باركَ الله لهُ فيما أعطاه في الدنيا ، ولَثوابُ الآخرة أعظم .
وقبلَ
أن تبرُك النوق ، كان الخبرُ قد نُقِلَ إلى عبد الرحمن بن عوف ، فما إن
لامَست مقالة أمّ المؤمنين سَمعَهُ حتى طار مسرعاً إلى عائشة وقال:
أُشهدُكِ يا أمّه أنّ هذِه العير جميعها بأحمالها وأقتابها أحلاسها في سبيل الله .
* * *
بقيت
دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام لِعبد الرحمن بن عوف بأن يُبارك الله له
تُظلّله ما امتدّت به الحياة ، حتّى غدا أغنى الصحابة غنىً وأكثرهم ثراءً …
لكِنَ عبد الرحمن بن عوف جعل ذلك المال كلّه في مرضاة الله ومرضاة رسوله ،
فكان يُنفقه بكلتا يديه يميناً وشمالاً ، وسرّاً وإعلاناً … حيث تصدّق
بأبعين ألف درهم من الفضة ، ثمّ أتبعها بأربعين دينارٍ ذهباً … ثم تصدّق
بمائتي أوقية من الذهب … ثمّ حمل مجاهِدين في سبيل الله على خمسمائة فرس ،
ثمّ حملَ مجاهدين آخرين على ألف وخمسمائة راحِلة .
ولمّا حضرت عبد الرحمن بن عوف الوفاة أعتقَ خلقاً كثيراً مِن مماليكه .
وأوصى لكل رجل بقيَ من أهلِ ((بدرٍ)) بأربعمائة دينارٍ ذهباً ، فأخذوها جميعاً ، وكان عددهم مائة .
وأوصى لكلّ واحدة من أمّهات المؤمنين بمالٍ جزيلٍ ؛ حتى إنّ أمّ المؤمنين عائشة - رضوان الله عليها- كثيراً ما كانت تدعو له فتقول:
((سقاهُ الله من ماءِ السّلسبيل)) .
ثمّ
إنّه بعد ذلك كلّه خلّف لِورثته مالاً لا يكاد يُحصيه العدّ … حيث تركَ
ألف بعير ، ومائة فرس ، وثلاثة آلاف شاة ، وكانت نساؤه أربعاً فبلغَ ربع
الثمن الذي خصّ كل واحدة منهنّ ثمانين ألفاً .
وتركَ من الذهب والفضة ما قسّم بين ورثته بالفؤوسِ حتى تأثّرت أيدي الرجال من تقطيعه .
كلّ ذلك بفضلِ دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُباركَ لهُ مَالِه .
* * *
لكنّ ذلك المال كلّه لم يفتن عبد الرحمن بن عوف ، ولم يغيّره ؛ فكان الناس إذا رأوه بين مماليكه لم يُفرّقوا بينه وبينهم .
وقد أتِيَ ذات يوم بطعام - وهو صائم- فنظرَ إليه ثمّ قال:
لقد قتِلَ مُصعب بن عُمير - وهو خيرٌ منّي - فما وجدنا لهُ إلا كفناً إن غطّى رأسه بدت رِجلاه ، وإن غطّى رجليه بدا رأسه .
ثمّ بسطَ الله لنا منَ الدنيا ما بسطَ …
وإنّي لأخشى أن يكونَ ثوابنا قد عجّل لنا …
ثمّ جعل يبكي وينشج حتى عافَ الطعام .
* * *
طوبى لِعبد الرحمن بن عوف وألفُ غِبطة …
فقد بشَّره بالجنّة الصّادق المَصدوق محمد بنُ عبدِ الله .
وحملَ جنازَتهُ إلى مثواه الأخير خال رسول الله سعدُ بن أبي وقّاص .
وصلّى عليه ذو النّورين عثمان بن عفّان .
وشيّعه أمير المؤمنين المُكرّم الوجه علي بن أبي طالب ، وهو يقول:
((اذهب فقد أدركتَ صَفوها ، وسَبقتَ زَيفَها يرحَمُكَ الله)) .
المصدر
كتاب صور من حياة الصحابة للدكتورعبد الرحمن رأفت الباشا رحمه الله