لو
كان هناك أناس يُولدون في الجنة، ثم يشبّون في رحابها ويكبرون.. ثم يُجاء
بهم إلى الأرض ليكونوا زينةً لها، ونوراً لكان ((عمّار))، وأمّه ((سميّة))،
وأبوه ياسر من هؤلاء..!!
ولكن لماذا نقول: لو.. ولماذا نفترض هذا الافتراض، وقد كان آل ياسر من أهل الجنة فعلاً..؟؟
وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مواسياً لهم فحسب حين قال:
((صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة))..
بل كان يُقرِر حقيقة يعرفها؛ ويُؤكِّد واقعاً يُبصره ويراه..
* * *
خرج ياسر بن عامر؛ والد ((عمّار))، من بلده في اليمن يطلب أخاً له، ويبحث عنه…
وفي مكّة طاب له المقام، فاستوطنها محالفاً أبا حُذيفة بن المغيرة ..
وزوّجه أبو حذيفة إحدى إمائه ((سُميّة بنت خياط))…
ومن هذا الزواج المبارك رَزق الله الأبوين ((عمّاراً))…
وكان إسلامهم مبكراً… شأن الأبرار الذين هداهم الله..
وشأن الأبرار المُبكّرين أيضاً، أخذوا نصيبهم الأوفى من عذاب قريش وأهوالها..!!
ولقد كانت قريش تتربّص بالمؤمنين الدوائر..
فإن كانوا ممن لهم في قومهم شرف ومنعة، تولّوهم بالوعيد والتهديد، ويلقى أبو جهل المؤمن منهم فيقول له: ((تركت دين آبائك وهم خير منك.. لنُسفّهنّ حلمك.. ولنضعنَّ شرفك.. ولنُكسّدنَّ تجارتك.. ولنُهلِكنَّ مالك)).. ثم يشنون عليه حرب أعصاب حامية.
وإن كان المؤمنون من ضعفاء مكّة وفقرائها، أو عبيدها، أصْلتهم سعيراً.
ولقد كان آل ياسر من هذا الفريق..
ووُكِّل
أمر تعذيبهم إلى بني مخزوم، يخرجون بهم جميعاً.. ياسر، وسُميّة، وعمّار،
كل يوم إلى رمضاء مكّة الملتهبة، ويصبّون عليهم من جحيم العذاب ألواناً
وفنوناً!!
ولقد
كان نصيب سميّة من ذلك العذاب فادحاً ورهيباً.. ولن نفيض في الحديث عنها
الآن.. فلنا - إن شاء الله - مع جلال تضحيتها، وعظمة ثباتها لقاء نتحدث
عنها وعن نظيراتها وأخواتها في تلك الأيام الخالدات..
وليكن
حسبُنا الآن أن نذكر في غير مبالغة أن سُميّة الشهيدة وقفت يوم ذاك موقفاً
يمنح البشرية كلها من أولها إلى آخرها شرفاً لا ينفد، وكرامة لا ينصل
بهاؤها..!!
موقفاً، جعل منها ((أمّاً)) عظيمة للمؤمنين في كل العصور.. وللشرفاء في كل الأزمان..!!
* * *
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج إلى حيث عَلِم أن آل ياسر يُعذّبون..
ولم يكن أيامئذٍ يملك من أسباب المقاومة ودفع الأذى شيئاً.. وكانت تلك مشيئة الله.
فالدين
الجديد - مِلَّة إبراهيم حنيفاً - الدين الذي يرفع ((محمد)) لواءه، ليس
حركة إصلاح عابرة وعارضة.. إنما هو نهج حياة للبشرية المؤمنة.. ولا بدّ
للبشرية المؤمنة هذه من أن ترث مع الدين تاريخه بكل بطولاته، وتضحياته،
ومُخاطراته..
إن هذه التضحيات النبيلة الهائلة، هي ((الخرسانة)) التي تهبُ الدين والعقيدة ثباتاً لا يزول، وخلوداً لا يبلى..!!!
إنها ((العبير)) يملأ أفئدة المؤمنين ولاء، وغِبطة، وحُبوراً.
وإنها ((المنار)) الذي يهدي الأجيال الوافدة إلى حقيقة الدين، وصِدقه وعظمته..
وهكذا،
لم يكن هناك بُدٌّ من أن يكون للإسلام تضحياته وضحاياه، ولقد أضاء القرآن
الكريم هذا المعنى للمسلمين في أكثر من آية.. فهو يقول:
]أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[ [العنكبوت: 2].
* * *
]أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ[ [آل عمران: 142].
* * *
]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[ [العنكبوت: 3].
* * *
]أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ[ [التوبة: 16].
* * *
]مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ[ [آل عمران: 179].
* * *
]مَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ[ [آل عمران: 166].
أجل..
هكذا علّم القرآن حملته وأبناءه، أنّ التضحية جوهر الإيمان، وأنّ مقاومة
التحدّيات الغاشمة الظالمة بالثبات وبالصبر وبالإصرار… إنما تُشكّل أبهى
فضائل الإيمان وأروعها…
ومن
ثمّ فإن دين الله هذا وهو يضع قواعده، ويُرسي دعائمه، ويُعطي مُثُله، لا
بدّ له من أن يدعم وجوده بالتضحية، ويُزكّي نفسه بالفداء، مختاراً لهذه
المهمة الجليلة نفراً من أبنائه وأوليائه وأبراره يكونون قدوة سامقة ومثلاً
عالياً للمؤمنين القادمين.
ولقد
كانت سُميّة .. وكان ياسر.. وكان عمار من هذه الثلّة المباركة العظيمة
التي اختارتها مقادير الإسلام لتصوغ من تضحياتها وثباتها وإصرارها وثيقة
عظمته وخلوده..
* * *
قلنا:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج كل يوم إلى أسرة ياسر،
مُحيِّياً صمودها وبطولتها.. وكان قلبه الكبير يذوب رحمة وحناناً لمشهدهم
وهم يتلقّون من العذاب ما لا طاقة لهم به.
وذات يوم، وهو يعودهم ناداه عمار:
((يا رسول الله .. لقد بلغ منّا العذاب كلّ مبلغ))..
فناداه الرسول صلى الله عليه وسلم :
((صبراً أبا اليقظان.. صبراً آل ياسر.. فإنّ موعدكم الجنّة))..
ولقد وصف أصحاب عمار العذاب الذي نزل به في أحاديث كثيرة .
فيقول عمرو بن الحكم:
((كان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول)).
ويقول عمرو بن ميمون:
((أحرق المشركون عمار بن ياسر بالنار، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرّ به، ويُمرُّ يده على رأسه ويقول: ((يا نارُ كوني برداً وسلاماً على عمار، كما كنتِ برداً وسلاماً على إبراهيم))..
على أنّ ذلك الهول كله لم يكن لِيفدح روح عمار، وإنْ فدح ظهره ودغدغ قُواه..
ولم
يشعر عمار بالهلاك حقاً، إلا في ذلك اليوم الذي استنجد فيه جلاّدوه بكل
عبقريتهم في الجريمة والبغي.. فمن كيّ بالنار، إلى صلبه على الرمضاء
المتسعِّرة تحت الحجارة الملتهبة.. إلى غطِّه في الماء حتى تختنق أنفاسه،
وتتسلخ قروحه وجروحه.
في ذلك اليوم إذ فقد وعيه تحت وطأة هذا الهول فقالوا له: اذكر آلهتنا بخير، وأخذوا يقولون له، وهو يُردّد وراءهم القول في غير شعور.
في
ذلك اليوم، وبعد أن أفاق قليلاً من غيبوبة تعذيبه، تذكّر ما قال فطار
صوابه، وتجسمت هذه الهفوة أمام نفسه حتى رآها خطيئة لا مغفرة لها ولا
كفّارة.. وفي لحظات معدودات، أوقع به الشعور بالإثم من العذاب ما أضحى عذاب
المشركين تجاهه بلسماً ونعيماً…!!
ولو تُرِك عمار لمشاعره تلك بضع ساعات لقضت عليه لا محالة ..
لقد
كان يحتمل الهول المُنصب على جسده، لأن روحه هناك شامخة .. أما الآن وهو
يظن أنّ الهزيمة أدركت روحه فقد أشرفت به همومه وجزعه على الموت والهلاك..
لكنّ الله العليّ الكبير أراد للمشهد المثير أن يبلغ جلال ختامه …
وبسط الوحي يمينه المباركة مصافحاً بها عماراً، وهاتفاً به: انهض أيها البطل … لا تثريب عليك ولا حرج..
ولقِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه فألفاه يبكي، فجعل يمسح دموعه بيده، ويقول له: ((أخذكَ الكفار، فغطوك في الماء، فقلت: كذا… وكذا..؟؟))
أجاب عمار وهو ينتحب: نعم يا رسول الله …
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم: ((إن عادوا، فقل لهم مثل قولك هذا))..!!
ثم تلا عليه الآية الكريمة:
]إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ[ [النحل: 106].
واستردّ عمار سكينة نفسه، ولم يعُد يجد للعذاب المنقضّ على جسده ألماً، ولم يعُد يلقِي له بالاً..
لقد ربح روحه، وربح إيمانه… ولقد ضمن القرآن له هذه الصفقة المباركة، فليكن بعدئذ ما يكون …!!
وصمد عمار حتى حلّ الإعياء بجلاّديه، وارتدّوا أمام إصراره صاغرين…!!
* * *
استقرّ المسلمون بالمدينة بعد هجرة رسولهم إليها، وأخذ المجتمع الإسلامي هناك يتشكل سريعاً، ويستكمل نفسه..
ووسط هذه الجماعة المسلمة المؤمنة، أخذ عمار مكاناً عليّاً…!!
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبّه حبّاً عظيماً، ويباهي أصحابه بإيمانه وهديه…
يقول عنه صلى الله عليه وسلم:
((إن عماراً مُلِئ إيماناً إلى مُشاشِه - أي إلى ما تحت عظامه- ))..
وحين وقع سوء تفاهم عابر بين خالد بن الوليد وبين عمار، قال الرسول صلى الله عليه وسلم :
((مَنْ عادى عماراً، عاداه الله، ومن أبغض عماراً، أبغضه الله…))
ولم يكن أمام خالد بن الوليد - بطل الإسلام - إلا أن يساعر إلى عمار معتذراً إليه، وطامعاً في صفحه الجميل..!!
وحين
كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة إثْرَ
نزولهم بها، ارتجز الإمام علي - كرّم الله وجهه- أنشودة راح يردّدها،
ويردّدها المسلمون معه، فيقولون:
لا يستوي مَن يعمُر المساجدا
يَدأبُ فيها قائماً، وقاعدا
ومَن يُرى عن الغُبار حائِدا
وكان
عمار يعمل في ناحية من المسجد، فأخذ يردّد الأنشودة ويرفع بها صوته… وظنّ
أحد أصحابه أن عماراً يعرض به، فغاضبه ببعض القول فغضب الرسول صلى الله
عليه وسلم وقال:
((ما لهُم ولعمار…؟؟
يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار…
إن عماراً جلدة ما بين عَينَيَّ وأنفي))…
وإذا
أحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً إلى هذا الحد، فلا بدّ من أن
يكون إيمانه، وبلاؤه، وولاؤه، وعظمة نفسه ، واستقامة ضميره ونهجه.. قد بلغت
المدى، وانتهت إلى ذروة الكمال الميسور..!!
وكذلكم كان عمار…
لقد
كالَ الله له من نعمته وهُداه بالمِكيال الأوفى، وبلغ في درجات الهدى
واليقين ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يُزكّي إيمانه، ويرفعه بين
أصحابه قدوة ومثلاً فيقول:
((اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر… واهتدوا بهدي عمار))..
ولقد وصفه الرواة، فقالوا:
((كان طُوالاً، أشهل، رَحب ما بين المنكبين.. من أطول الناس سكوتاً، وأقلِّهم كلاماً))…
فكيف
سارت حياة هذا العملاق، الصامت، الأشهل، العريض الصدر، الذي يحمل جسده
آثار تعذيبه المروِّع، كما يحمل - في نفس الوقت - وثيقة صُموده المذهل،
وعظمته الخارقة…؟!
كيف سارت حياة هذا الحواريّ المخلص، والمؤمن الصادق، والفِدائيّ الباهر…؟؟
لقد شهد مع مُعلّمه ورسوله صلى الله عليه وسلم المشاهد.. بدراً، وأحُداً ، والخندق وتبوك… وبقيّتها جميعاً.
ولما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، واصل العملاق زحفه..
ففي
لقاء المسلمين مع الفرس ، ومع الروم، ومن قبل ذلك في لقائهم مع جيوشهم
الرِّدّة الجرّارة، كان عمار هناك في الصف الأول دوماً.. جندياً باسلاً
أميناً، لا تنبوا لسيفه ضربة … ومؤمناً ورِعاً جليلاً، لا تأخذه عن الله
رغبة..
وحين
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يختار ولاة المسلمين في دِقّة وتحفُّظ من
يختار مصيره، كانت عيناه تقعان دوماً في ثقة أكيدة على عمار بن ياسر..
وهكذا سارع إليه وولاّه الكوفة، وجعل ابن مسعود معه على بيت مالها ..
وكتب إلى أهلها كتاباً يبشّرهم فيه بواليهم الجديد، فقال:
((إني بعثتُ إليكم عمار بن ياسر أميراً… وابن مسعود مُعلِّماً ووزيراً…
وإنهما لمن النُّجَباء، من أصحاب محمد، ومن أهل بدر))…
ولقد
سار عمار في ولايته سيراً شقّ على الطامعين في الدنيا تحمُّله حتى تألبُوا
عليه أو كادوا … لقد زادته الولاية تواضعاً، وورعاً، وزهداً..
يقول ابن أبي الهُذيل، وهو من معاصريه في الكوفة:
((رأيت عمار بن ياسر وهو أمير الكوفة يشتري من قِثّائها، ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره، ويمضي بها إلى داره))..!!!
ويقول
له واحد من العامة وهو أمير الكوفة: ((يا أجدع الأذُن)) يُعيّره بأذنه
التي قُطعت بسيوف المرتدين في حرب اليمامة. فلا يزيد الأمير الذي بيده
السلطة على أن يقول لشاتمه:
((خيرَ أذُني سبَبْت.. لقد أصيبت في سبيل الله))..!!
أجل..
لقد أصيب في سبيل الله يوم اليمامة، وكان يوماً من أيام عمار المجيدة.. إذ
انطلق هذا العملاق في استبسال عاصف يحصد في جيش مُسيلمة الكذاب، ويُهدي
إليه المنايا والدمار..
وإذا يرى في المسلمين فتوراً يرسل بين صفوفهم صياحه المزلزل، فيندفعون كالسهام المقذوفة.
يقول عبد الله بن عرم - رضي الله عنهما- :
((رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة، وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين.. أمِن الجنة تفرُّون..؟ أنا عمار بن ياسر، هلمّوا إليّ.. نظرت إليه، فإذا أذنه مقطوعة تتأرجح، وهو يقاتل أشدَّ القتال))..!!!
ألا
من كان في شكٍّ من عظمة محمد الرسول الصادق، والمعلّم الكامل، فَليقف أمام
هذه النماذج من أتباعه وأصحابه، وليسأل نفسه: هل يقدر على إنجاب هذا
الطراز الرفيع سوى رسول كريم، ومُعلِّم عظيم؟؟
إذا خاضوا في سبيل الله قتالاً اندفعوا اندفاع من يبحث عن المنيّة، لا عن النصر..!!
وإذا كانوا خُلفاء وحكّاماً، ذهب الخليفة يحلُبُ شِياه الأيامى، ويعجن خبز اليتامى… كما فعل أبو بكر، وعمر..!!
وإذا
كانوا وُلاة، حملوا طعامهم على ظهورهم مربوطاً بحبل.. كما فعل عمار.. أو
تنازلوا عن راتبهم.. وجلسوا يصنعون من الخُوص المجدول أوعية ومكاتل، كما
صنع سَلمان..!!
ألا
فَلنحنِ الجباه تحيةً وإجلالاً للدين الذي أنجبهم، وللرسول الذي ربَّاهم..
وقبل الدين والرسول؛ لله العلي الكبير الذي اجتباهم لهذا كله.. وهداهم
لهذا كله.. وجعلهم رُوّاداً لخير أمّة أخرجت للناس..!!
* * *
كان
حذيفة بن اليمان، الخبير بـ ((لُغةِ)) السّرائر والقلوب يتهيَّأ للقاء
الله، ويعالج سكرات الموت حين سأله أصحابه الحافون حوله قائلين له ((بِمَن
تأمُرنا، إذا اختلف الناس))..؟
فأجابهم حذيفة، وهو يُلقي بآخر كلماته:
((عليكم بابن سُميّة.. فإنه لن يُفارق الحقّ حتى يموت))…
أجل..
إن عماراً ليدُور مع الحق حيث يدور.. والآن ونحن نقْفُو آثاره المباركة،
ونتتبّع معالم حياته العظيمة، تعالوا نقترب من مشهد عظيم…
ولكن،
قبل أن نواجه هذا المشهد في روعته وجلاله.. في صولته وكمالِه.. في تفانيه
وإصراره.. في تفوّقه واقتداره.. تعالوا نُبصر مشهداً آخر يسبق هذا المشهد،
ويتنبّأُ به، ويُهيّئ له…
كان
ذلك إثر استقرار المسلمين بالمدينة، وقد نهض الرسول الأمين صلى الله عليه
وسلم وحوله الصحابة الأبرار، شُعثاً لربهم وغُبراً، يبنون بيته، ويقيمون
مسجده.. قد امتلأت أفئدتهم المؤمنة غبطة، وتألّقت بشراً، وابتهلت حمداً
لربها وشكراً..
الجميع يعملون في حُبور وأمل.. يحملون الحجارة، أو يعجنون المِلاط.. أو يقيمون البناء.. فوجٌ هنا، وفوجٌ هناك…
والأفق السعيد يردّد تغريدهم الذي يرفعون به أصواتهم المحبورة:
لَئِن قَعَدنَا والنبيُّ يعمل
لذاكَ مِنّا العملُ المضَّلَل
هكذا يغنون وينشدون…
ثم تتعالى أصواتهم الصادحة بتغريدة أخرى:
اللهمَّ إن العيش عيشُ الآخرة فارحم الأنصار والمُهاجره
وتغريدة ثالثة:
لا يستوي مَن يَعمر المساجدا
يَدأَبُ فيها قائماً وقاعدا
ومَن يُرَى عَن الغُبار حائدا
إنها خلايا الله تَعمل.. إنهم جنوده، يحملون لواءه، ويرفعون بناءه…
ورسوله الطّيب الأمين معهم، يحمل من الحجارة أعتاها، ويُمارس من العمل أشقَّهُ…
وأصواتهم
المغرِّدة تحكي غبطة أنفسهم الراضية المخبِتَة.. والسماء من فوقهم تغبط
الأرض التي تحملهم فوق ظهرها.. والحياة المُتهللة تشهدُ أبهى أعيادها..!!
وعمار بن ياسر هناك وسط المهرجان الحافل يحمل الحجارة الثقيلة من مَنْحَتِها إلى مُستقرِّها…
ويُبصره
((الرحمةُ المُهداة)) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأخذه إليه
حنانٌ عظيم، ويقترب منه وينفض بيده البارَّة الغُبار الذي كسا رأسه، ويتأمل
وجهه الوديع المؤمن بنظرات ملؤها نور الله، ثم يقول على مَلأ من أصحابه
جميعاً:
((وَيْحَ ابن سُميَّة..!! تَقتُلُه الفِئةُ الباغية))…
وتتكرر
النُّبوءة مرة أخرى… حين يسقط جدار كان يعمل تحته، فيظن بعض إخوانه أنه قد
مات، فيذهب ينعاه إلى الرسول، ويُفزَّع الأصحاب من وَقع النبأ… لكنّ
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في طمأنينة وثقة:
((ما مات عمار… تقتُل عماراً الفئة الباغية))…
فمن تكون هذه الفئة يا ترى…؟؟
ومتى، وأين..؟؟
لقد
أصغى عمار للنبوءة إصغاء من يعرِف صِدق البصيرة التي يحملها رسوله العظيم
صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يُروَّع.. فهو منذ أسلم، وهو مُرشَّحٌ للموت
وللشهادة في كل لحظة من ليل أو نهار..
ومضت الأيام.. والأعوام..
ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.. ثم لحق به إلى رضوان الله أبو بكر.. ثم لحق بهما إلى رضوان الله عمر…
ووليَ الخلافة ((ذو النورين)) عثمان بن عفان…
وكانت المؤامرات ضدّ الإسلام تعمل عملها المستميت، وتحاول أن تربح بالغدر وإثارة الفتن ما خَسِرته في الحرب..
وكان
مقتل عمر أول نجاح أحرزته هذه المؤامرات التي أخذت تهبُّ على المدينة كريح
السموم من تلك البلاد التي دمّر الإسلام مُلكها وعُروشها…
وأغراها استشهاد عمر على مواصلة مساعيها، فألّبت الفتن وأيقظتها في معظم بلاد الإسلام…
ولعل
عثمان - رضي الله عنه - لم يُعط الأمور ما تستحقه من اهتمام وحذر،
واستجابة، فوقعت الواقعة واستشهد عثمان، وانفتحت على المسلمين أبواب
الفتنة… وقام معاوية يُنازع الخليفة الجديد عليّاً - كرّم الله وجهه - حقّه
في الأمر، وفي الخلافة…
وتعدّدت اتجاهات الصحابة… فمنهم من نفض يديه من الخلاف، وأوَى إلى بيته، جاعلاً شعاره كلمة ابن عمر:
((من قال حيّ على الصلاة أجبته…
ومَن قال حيّ على الفلاح اجبته…
ومَن قال حيّ على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله، قلتُ: لا))..
ومنهم من انحاز إلى معاوية…
ومنهم من وقف إلى جوار عليّ صاحب البيعة، وخليفة المسلمين…
تُرى أين يقف اليوم عمار؟؟
أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((.. واهتدُوا بهدي عمَّار))..؟
أين يقف الرجل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:
((مَنْ عادَى عماراً عاداهُ الله))..؟
والذي كان إذا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته يقترب من منزله قال:
((مرحباً بالطَّيب المطيَّب، ائذنوا له))..!!
لقد وقف إلى جوار علي بن أبي طالب، لا مُتحيّزاً ولا مُتعصّباً، بل مُذعناً للحقّ، وحافظاً للعهد…
فعليّ خليفة المسلمين، وصاحب البيعة بالإمامة… ولقد أخذ الخلافة وهو لها أهل وبها جدير…
وعليّ - قبل هذا وبعد هذا - صاحب المزايا التي جعلت منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى…
إن
عماراً الذي يدور مع الحق حيث دار، ليهتدي بنور بصيرته وإخلاصه إلى صاحب
الحقّ الأوحد في هذا النزاع.. ولم يكن صاحب الحقّ يومئذ في يقينه سوى
الإمام عليّ، فأخذ مكانه إلى جواره…
وفرِح
علي رضي الله عنه بنصرته فرحاً لعلّه لم يفرح يومئذ مثله وازداد إيماناً
بأنه على الحقّ ما دام رجل الحقّ العظيم عمار قد أقبل عليه وسار معه…
وجاء يوم صفّين الرهيب.
وخرج الإمام عليّ يُواجه العمل الخطير الذي اعتبره تمرّداً يحمل هو مسؤولية قَمْعِه.
وخرج معه عمار..
كان عمار قد بلغ من العمر يومئذ ثلاثاً وتسعين..
ثلاثة وتسعون عاماً، ويخرج للقتال..؟؟
أجل، ما دام يعتقد أن القتال مسؤوليته وواجبه.. ولقد قاتل أشدّ وأروع مما يقاتل أبناء الثلاثين…!!
كان الرجل الدائم الصمت، القليل الكلام، لا يكاد يحرّك شفتَيه حين يحرّكهما إلا بهذه الضراعة:
((عائذٌ بالله من فتنة..
عائذٌ بالله من فتنة..)).
وبُعيد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلَّت هذه الكلمات ابْتِهاله الدائم..
وكلما كانت الأيام تمرّ، كان هو يكثر من لهجه وتعوّذِه… كأنما كان قلبه الصافي يحِسُّ الخطر الداهم كلما اقتربت أيامه..
وحين
وقع الخطر، ونشبت الفتنة، كان ((ابن سُميّة)) يعرف مكانه فوقف يوم
((صِفّين)) حاملاً سيفه، وهو ابن الثالثة والتسعين - كما قلنا - ليناصر به
حقاً يُؤمن بوجوب مُناصرته…
ولقد أعلن وجهة نظره في هذا القتال قائلاً:
((أيها الناس:
سيروا
بنا نحو هؤلاء القوم الذين يزعُمون أنهم يثأرون لعثمان، ووالله ما قصدهم
الأخذُ بثأره، ولكنهم ذاقوا الدنيا، واستمرؤوها، وعلموا أنّ الحقّ يحول
بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من شهواتهم ودنياهم..
وما
كان لهؤلاء سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة المسلمين لهم، ولا الولاية
عليهم، ولا عرفت قلوبهم من خشية الله ما يحملهم على اتّباع الحقّ…
وإنهم لَيُخادِعون الناس بزعْمِهم أنهم يثأرون لدم عثمان.. وما يريدون إلا أن يكونوا جبابرة ومُلوكاً))…
ثم أخذ الرَّاية بيده، ورفعها فوق الرؤوس عالية خافقة، وصاح في الناس قائلاً:
((والذي نفسي بيده.. لقد قاتلتُ بهذه الرّاية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهأنذا أُقاتل بها اليوم…
والذي نفسي بيده.. لو هزمونا حتى يبلغوا سَعَفاتِ هجَر، لعلمتُ أنّنا على الحقّ، وأنهم على الباطل))..
ولقد تبعَ الناس عماراً، وآمنوا بصدق كلماته..
يقول ((أبو عبد الرحمن السُّلميُّ)):
((شهدنا
مع علي رضي الله عنه صِفّين، فرأيتُ عمار بن ياسر رضي الله عنه لا يأخذ في
ناحية من نواحيها، ولا وادٍ من أودِيتها، إلا رأيتُ أصحاب محمد صلى الله
عليه وسلم يتبعونه كأنه علمٌ لهم))..!!
كان عمار وهو يجول في المعركة ويصول، يُؤمِنُ أنه واحد من شهدائها…
وقد كانت نُبُوءة الرسول عليه الصلاة والسلام تأتلِقُ أمام عينيه بحروف كبيرة:
((تقتل عماراً الفئة الباغية))…
من أجل هذا كان صوته يجلجل في أفق المعركة بهذه التغريدة:
((اليوم ألْقَى الأحِبَّة… محمداً، وصَحْبَه))!!
ثم يندفع كقذيفة عاتية صوب مكان معاوية ومَن حوله من الأمويين ويُرسل صياحه عالياً مُدمدِماً:
لقد ضَرَبْناكم على تنْزِيله
واليومَ نَضربُكمْ على تأويله
ضَرْباً يُزِيلُ الهامَ عن مَقِيله
ويُذْهِلُ الخليلَ عن خَليله
أو يرجع الحقَّ إلى سبيله
وهو
يعني بهذا أن أصحاب الرسول السابقين، وعمار منهم، قاتلو الأمويين بالأمس
وعلى رأسهم أبو سفيان الذي كان يحمل لواء الشرك، ويقود جيوش المشركين..
قاتلوهم بالأمس، وكان القرآن الكريم يأمرهم صراحة بقتالهم لأنهم مشركون..
أما
اليوم، وإن يكونوا قد أسلموا، وإن يكُن القرآن الكريم لا يأمرهم صراحة
بقتالهم، إلا أن اجتهاد عمار رضي الله عنه في بحثه عن الحقّ، وفهمه لغايات
القرآن ومراميه يُقنِعانهِ بقتالهم حتى يعود الحقّ المغتصب إلى ذويه، وحتى
تنطفئ إلى الأبد نار التمرّد والفتنة…
ويعني كذلك، أنهم بالأمس قاتلو الأمويين لكفرهم بالدين وكفرهم بالقرآن…
واليوم..
يقاتلونهم لانحرافهم بالدين، وزَيْغهم عن القرآن الكريم وإساءتهم تأويله
وتفسيره، ومحاولتهم تطويع آياته ومراميه لأغراضهم وأطماعهم..!!
كان ابن الثالثة والتسعين، يخوض آخر معارك حياته المستبسلة الشامخة..
كان يُلقِّن الحياة قبل أن يرحل عنها آخر دروسه في الثبات على الحقّ، ويترك لها آخر مواقفه العظيمة، الشريفة، المُعلِّمَة…
ولقد حاول رجال معاوية أن يتجنَّبوا عماراً ما استطاعوا، حتى لا تقتله سيوفهم فيتَبيّن للناس أنهم ((الفئة الباغية))..
بيدَ
أنَّ شجاعة عمار الذي كان يقاتل وكأنه جيش وحده، أفقدتهم صوابهم، فأخذ بعض
جنود معاوية يتحيّنون الفرصة لإصابته، حتى إذا تمكّنوا منه أصابوه…
* * *
كان
جيش معاوية ينتظم كثيرين من المسلمين الجدد.. الذين أسلموا على قرْع طبول
الفتح الإسلامي في البلاد الكثيرة التي حررها الإسلام من سيطرة الروم
والفرس.. وكان أكثر هؤلاء وقود الحرب الأهلية التي سبَّبها تمرُّد معاوية
ونكوصُه عن بيعة عليّ… الخليفة، والإمام.. كانوا وقودها وزيتَها الذي
يزيدها اشتعالاً…
وهذا
الخلاف على خطورته.. كان يمكن أن ينتهي بسلام لو ظلت الأمور بأيدي
المسلمين الأوائل.. لكنه لم يكد يتخذ أشكاله الحدّة حتى تناوَلَتْه أيدٍ
كثيرة لا يُهمُّها مصير الإسلام، وذهبت تُذكي النار وتزيدها ضِراماً…
شاع
في الغداة خبر مقتل عمار، وذهب المسلمون يتناقل بعضهم عن بعض نُبوءة رسول
الله صلى الله عليه وسلم التي سمعها أصحابه جميعاً ذات يوم بعيد، وهم يبنون
المسجد بالمدينة..
((ويحَ ابنَ سُميّة، تقتُلُه الفِئة الباغية)).
وعرف الناس الآن من تكون الفئة الباغية.. إنها الفئة التي قتلت عماراً.. وما قتله إلا فئة مُعاوية..
وازداد أصحاب علي بهذا إيماناً..
أما فريق مُعاوية، فقد بدأ الشك يغزو قلوبهم، وتهيّأ بعضهم للتمرّد، والانضمام إلى عليّ..
ولم
يكد معاوية يسمع بما حدث.. حتى خرج يذيع في الناس أن هذه النبوءة حقّ، وأن
الرسول صلى الله عليه وسلم تنبّأ حقاً بأن عماراً ستقتله الفئة الباغية..
ولكن من الذي قتل عماراً..؟ ثم صاح في الناس الذين معه قائلاً:
((إنما قتله الذين خرجوا به من داره، وجاءوا به إلى القتال))..
وَانخدع بعض الذين في قلوبهم هوى بهذا التأويل المتهالك، واستأنفت المعركة سيرها إلى ميقاتها المعلوم..
* * *
أما عمار، فقد حمله الإمام علي فوق صدره إلى حيث صلّى عليه والمسلمون معه.. ثم دفَنه في ثيابه..
أجل..
في ثيابه المضمّخة بدمه الزكيّ الطّهور.. فما في كلّ حرير الدنيا وديباجها
ما يصلُح أن يكون كفناً لشهيد جليل، وقِدِّيس عظيم من طراز عمار..
ووقف المسلمون على قبره يعجبون..!!
منذ ساعات كان عمار يُغرّدُ بينهم فوق أرض المعركة… تملأ نفسه غبطة الغريب المُضْنَى يُزَف إلى وطنه، وهو يصيح:
((اليوم ألْقى الأحِبَّة، محمداً وصحبَه))..!!!!
أكان معهم اليوم على موعد يعرفه، وميقاتٍ ينتظره..؟؟!!
وأقبل بعض الأصحاب على بعضهم يتساءلون..
قال أحدهم لصاحبه: أتذكر أصيل ذلك اليوم بالمدينة ونحن جالسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وفجأة تهلَّل وجهه وقال: ((اشتاقت الجنةُ لعمار))..؟؟
قال له صاحبه: نعم، ولقد ذكر يومها آخرين.. منهم عليٌّ، وسلْمان.. وبلال…
إذن، فالجنّة كانت مُشتاقةً لعمار..
وإذن، فقد طال شوقها إليه، وهو يَستَمْهِلها حتى يؤدي كل تَبعاته، ويُنجز آخر واجباته..
ولقد أدّاها في ذِمّة، وأنجزها في غِبْطة..
أفما آنَ له أن يُلبّيَ نداء الشوق الذي يهتف به من رحاب الجنان..؟
بلى.. آن له أن يلبّي النداء.. فما جزاءُ الإحسان إلا الإحسان.. وهكذا ألقى رُمْحَه ومضى..
وحين
كان تُراب قبره يُسوَّى بيد أصحابه فوق جثمانه، كانت رُوحُه تُعانِقُ
مصيرها السعيد هناك.. في جنَّات الخُلْد، التي طال شوقُها لعمار..!
المصدر
كتاب رجال حول الرسول *صلى الله عليه وسلم* للكاتب الكبير خالد محمد خالد