سوق النخاسة..العبرة لمن يعتبر
يكتبه: خيرى رمضان
بطلة هذه القصة شابة مصرية متعلمة تبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين عاماً
جاءتنى باكية حزينة لتحكى لى ماحدث لها منذ ان نشأت فى بيت مكون من أب
مكافح وأم عظيمة لمجموعة من الإخوة والأخوات عاشوا حياة عائلية بسيطة
ومستقرة نسبياً فى أحد أحياء القاهرة الفقيرة.
وجاهد الجميع كي تصل سفينتهم الي بر الأمان, فكان الاهتمام الأكبر للوالد
أن علم البنات أفضل تعليم, أما الأولاد فلم يكن لهم هذا القدر من
الاهتمام, وكان كل هم الوالدة برغم مرضها الشديد أن تطعم وتكسي أولادها
بأفضل ما كان متاحا لديها في ذلك الوقت, ولايزال الجميع يردد مقولتها
الشهيرة التي كانت تكررها علي مسامعنا دائما خلي بالكم ياولاد من بعضكم
أنتم مالكوش حد غير ربنا.
واستمرت بطلة قصتنا قائلة: ومرت الأيام بحلوها القليل ومرها الكثير حتي
توفيت امي ـ رحمها الله ـ بعد معاناة طويلة مع المرض, فغابت عنا كل ألوان
السعادة, وسارت الحياة باهتة بلا معني حتي تزوج كل إخوتي وسافر كل منهم
الي خارج مصر, وتركوني وحيدة في دنيا واسعة قاسية لاترحم أحدا, ولم يعد
لي في هذه الدنيا سوي أب عجوز في الخامسة والثمانين من عمره يعاني كل
أمراض الشيخوخة.
ومشكلتي ياسيدي انني تقدم لي أكثر من عريس من مختلف المستويات والأعمار,
وفي كل مرة لانصل معا الي محطة الزواج لأسباب مختلفة, بعضها اقتصادية
وأغلبها اجتماعية ومع تعدي سن الثلاثين بدأت نظرات الناس القاسية وكلماتهم
الجارحة تطاردني في كل مكان, مما جعلني اطرق أبواب كل الزواج بعنف ومن أي
شخص بصرف النظر عن أي اعتبارات وظروف, فقط لكي أتخلص من كل هذه الظروف
التي تحاصرني من كل جانب, ومع مرور الأيام اختفي العرسان ونصحني بعض
الأصدقاء بالاستعانة بمكاتب الزواج التي بدأت تنتشر هذه الأيام في مصر
كنتيجة طبيعية لمشاكل تأخر سن الزواج وارتفاع نسب الطلاق وعزوف معظم الشباب
عن بناء أسرة جديدة بطريقة مشروعة.
والحقيقة ياسيدي انني ترددت كثيرا قبل أن أقدم علي هذه الخطوة الجريئة ولكن
كل الظروف المحيطة بي كانت تدفعني دفعا الي خوض هذه التجربة علي الأقل كي
ارتاح نفسيا وربما ايضا كي اقطع الطريق علي تلك النظرات والكلمات
اللاذعة, التي أعانيها ليل نهار, وفجأة وجدت نفسي بصحبة واحدة من
صديقاتي في مكتب فخيم أمام سكرتيرة حسناء تقدم لنا الحلول الممكنة وغير
الممكنة لكل مشاكل الارتباط وتقدم لنا كيفية السير في طريق الزواج وكأنه
مفروش بالورد والزهور دون أي مشاكل تذكر, وجلسنا في انتظار دورنا وسط
عشرات من الشباب والشابات من كل الأعمار الذين جاءوا من مختلف انحاء مصر
تداعبهم احلام الوصول الي شريك العمر.. وأخيرا جاء دورنا أنا وصديقتي
ودخلنا الي مكتب المدير فوجدناه رجلا فاضلا تتدلي من يده سبحة طويلة وحوائط
المكتب مليئة بلوحات كبيرة زينتها آيات من القرآن الكريم, وفور دخولنا
عليه بدأ حديثه معنا بالصلاة والسلام علي رسول الله وانتهينا بملء استمارة
بيانات كمرحلة أولي ثمنها خمسة وعشرون جنيها, ثم انتقلنا الي مرحلة أخري
من استعراض قوائم ومواصفات العرسان لاختيار مايناسبنا, وفور تحديد بعض
الاختيارات طلبت منا السكرتيرة سداد خمسة وسبعين جنيها بدعوي أننا دخلنا
الي مرحلة أكثر جدية.. وكانت دهشتنا تتزايد ونحن نستعرض نماذج العرسان
المطروحة وطلباتهم الغريبة والأغرب رؤيتهم للحياة المقبلة.. فهذا شاب
عمره سبعة وثلاثون عاما يحمل مؤهلا متوسطا وعنده شقة إيجار قديم ويعمل في
أعمال حرة مثل سمكري أو ميكانيكي أو نجار ويسكن مع أهله في عشوائيات منشية
ناصر أو المرج أو الخانكة ومع كل ذلك فهو يطلب عروسا صغيرة وزي القمر من
سكان الدقي أو المهندسين ومافيش مانع يكون عندها عربية وشوية فلوس في
البنك, وشاب آخر موظف بسيط يكاد يفك الخط وساكن في عزبة الهجانة وعايز
واحدة موظفة من سكان المقطم تصرف عليه لأنه لايجد عملا مناسبا لمؤهلاته
العظيمة, ونوع آخر من العرسان الشيك من ولاد الذوات الذي يطلب واحدة علي
مقاسه وماعندوش مانع يعيش معها عالة علي والدها في بيت أسرتها لحين
ميسرة!!
حاجات تضحك وتبكي لدرجة انني قررت الانسحاب من هذه التجربة, ولكن خذلتني
ارادتي فقررت ان اكمل المشوار وخاصة بعد أن لاحظت السكرتيرة ورئيس المكتب
ترددي فأمطراني بكلمات التشجيع جربي وانتي هاتخسري ايه وممكن يطلع حظك من
السما وتلاقي نصيبك والغريب ان المكتب حدد أتعابا تصاعدية لتسهيل عملية
التوفيق بين راغبي الزواج.. تتدرج حسب كل فئة من هؤلاء الشباب, وجدول
الأتعاب يبدأ بمائة وخمسين جنيها وينتهي بخمسمائة جنيه تشمل الأتعاب
والسمسرة لإتمام هذا الزواج وكأننا جواري في سوق النخاسة!! ولا أدري كيف
قبلنا بعض هذه العروض. وعدنا في اليوم التالي بالمبالغ المطلوب دفعها,
وكان من نصيبي شاب قدم نفسه علي أنه من سكان مدينة الرحاب وعنده فيلا
وعربية وشاليه في الإسكندرية ووقعت علي طلب الاتفاق علي الزواج ولكني فوجئت
بأن طلباته لإتمام هذا الزواج أكبر بكثير من امكاناتي وقدراتي المادية
والمعنوية, وتبادلنا النظرات وعلامات الاستفهام أنا وصديقتي التي كانت هي
الأخري قد وقع اختيارها علي شاب قدم لها نفسه هو الآخر فوجدته صديقتي من
أفضل العروض المطروحة, وكانت طلباته لا تقل كثيرا عن طلبات الشاب الذي
وقع عليه اختياري, مما جعلنا ننظر الي بعضنا البعض وفي نفس واحد كان
السؤال الذي يطرح نفسه.. ما العمل الآن ؟؟ وهنا تدخل رئيس المكتب قائلا
المشكلة محلولة بس انتوا وافقوا وأنا علي التمويل والأعمال بالنيات.
وبدأ الحديث عن آلاف الجنيهات المطلوبة لزوم الشبكة والفرح والعفش والشقة
وحتي فستان الفرح والكوافير, والصراحة قلبي وقع وقلت الجوازة دي مش هتكمل
ولكن كان بداخلي احساس قوي يدفعني كي أكمل المشوار, وخاصة بعد أن شرح
لنا صاحب المكتب ان الموضوع سهل جدا لأننا سنأخذ قرضا من أحد البنوك في
حدود ثلاثين ألف جنيه تسدد بالتقسيط المريح وبضمان المكتب وقدم إلينا
مجموعة من الأوراق والمستندات التي قيل لنا انها لزوم القرض من البنك,
وبالفعل اقنعونا بالتوقيع عليها, وفي اليوم التالي ذهبنا الي البنك لتسلم
القرض وفور تسلم المبلغ فوجئت بصاحب المكتب والسكرتيرة يقتادانني الي مقر
المكتب ويقولان لي أن المكتب سيأخذ خمسة وعشرين الفا للصرف علي هذا الزواج
وهذا هو شرط البنك لصرف القرض! أما الخمسة آلاف المتبقية فهي مخصصة لي
لشراء مستلزماتي الشخصية أيضا بمعرفة المكتب!! ولا أدري ياسيدي كيف وافقت
علي ذلك.. فهل بسبب رغبتي لإتمام الزواج فعلا أم بسبب حال الضعف التي
انتابتني أمام احساسي بالحصار الذي فرضه صاحب المكتب والسكرتيرة.
وكان من الطبيعي أن أسأل هذا الشاب الذي اخترته ليكون زوج المستقبل متي
سيبدأ الإجراءات الفعلية لإتمام هذا الزواج, وكان من الطبيعي ان يطلب مني
تحديد موعد ليزور أهلي, وقلت له علي طريقة هند صبري في مسلسلها الشهير
عاوزه أتجوز اتفضل فورا..
وبالفعل جاء عريس المستقيل في اليوم التالي والتقي بوالدي وعرض عليه خطوات
هذا الزواج المرتقب واطمأن قلبي قليلا بعد أن كنت قد انتابتني بعض
الشكوك, وفي اليوم التالي مباشرة قام بزيارة أخري لوالدي لمناقشة بعض
التفاصيل المتعلقة بالشبكة والفرح والمعازيم وغيرها, وكدت أطير فرحا بعد
أن اقترب الحلم من الحقيقة..
ومر أسبوع كنت فيه هائمة وسط احلام الغد القريب حتي انني لم اتوقف طويلا
عند عدم اتصاله بي طوال هذا الأسبوع وأفقت علي سؤال كل من حولي.. أين
العريس ومتي يتم تحديد موعد الفرح واتصلت به علي تليفونه المحمول فوجدته
خارج الخدمة فاتصلت بالمكتب فلم أجد من يرد وساورتني الشكوك فذهبت الي مقر
المكتب فوجدته مغلقا هو الآخر وتصاعدت شكوكي, وهرولت الي المكتب فسألت
الجيران وبواب العمارة المجاورة واتفق الجميع علي اجابة واحدة دي كانت شركة
مآجرة شقة مفروشة وعزلوا منها وهنا تأكدت مخاوفي وعرفت أنني وقعت ضحية
لعملية نصب محكمة, وادركت حجم الكارثة التي وقعت فيها..
ودارت الأرض تحت أقدامي وانطويت علي نفسي وأحزاني لفترة طويلة لا أدري كيف
اتصرف, وخطر لي أن اتردد علي مقر المكتب من آن الي آخر, فربما أعثر ولو
علي خيط رفيع يقودني الي صاحب الشركة أو العريس الهارب واكتشفت انني لست
الضحية الوحيدة التي تراقب المكتب ولكن هناك العشرات من الضحايا من الشباب
والشابات الذين شربوا نفس المقلب, وعدت الي بيتي منكسرة حزينة لا ادري
ماذا أفعل ولم أجد لدي الجرأة ان اشارك والدي في مأساتي خوفا عليه من
الصدمة خاصة انني علي ثقة أنه لايملك حلا لهذه المأساة.. ومع بداية الشهر
التالي بدأ البنك المطالبة بأول الأقساط الشهرية للقرض وقيمته831
جنيها, وبالطبع عجزت عن السداد, وكيف اسدد وانا لا أعمل وليس لنا أي
دخل للأسرة سوي مبلغ ضئيل لا يكاد يكفي لمستلزمات الحياة البسيطة,
وتكاليف علاج والدي المريض, خاصة انني أخفيت الموضوع كله عن إخوتي وأقرب
الناس الي خوفا من لومهم وعتابهم وليتني فعلت..
ومرت الشهور حتي بلغ مجموع الأقساط المتأخرة حتي الآن5500 جنيه, ولم
يعد أمامي الا ان اطرق الأبواب أملا في إيجاد مخرج من تلك الكارثة التي
وضعت فيها نفسي بجهلي وقلة عقلي.. وخرجت هائمة علي وجهي بحثا عن أي عمل
لسداد قرض البنك قبل أن أجد نفسي معرضة للحبس!!
والآن ياسيدي لا أدري الي من أتوجه باللوم والعتاب!! هل إلي المجتمع الذي
لم يرحم ظروفي وآدميتي ومارس علي كل ألوان ووسائل الضغط العصبي والنفسي
حتي دفعني الي تلك المغامرة غير المحسوبة؟؟.. أم الي أهلي وجيراني الذين
تركوني فريسة سهلة لبعض الذين فقدوا ضمائرهم وأعماهم جمع المال والثروة ولو
علي جثث ضحايا لاحول لهم ولاقوة؟؟ أم الي القانون الذي أعطي البعض الفرصة
لافتراس الضعفاء والمساكين دون عقاب رادع؟؟ أم ألوم نفسي وجهلي وتهوري
وخروجي علي الأعراف والتقاليد التي تربينا عليها؟؟
وقررت أن أتوجه الي الله الذي لايغفل ولاينام وأدعوه صادقة أن يساعدني علي
تجاوز تداعيات تلك المأساة وهذا الخطأ والجرم الكبير الذي ارتكبته في حق
نفسي, وفي الوقت نفسه رأيت ان أقدم قصتي لقراء بريد الجمعة لعلها تكون
عبرة وعظة لمن هم في مثل ظروفي حتي لايقعوا في نفس الخطأ.. وأقول لهم ان
الزواج رزق من عند الله يرزقه من يشاء عندما يشاء, ويجب الا نستعجل الرزق
ففي السماء رزكم وماتوعدون
* ما سطره الصديق المبدع الحكيم د.هاني عبدالخالق في هذه الرسالة,
علي لسان تلك الفتاة يكشف أزمة مجتمع متكاملة ومتصاعدة. فالقضية ليست في
عملية النصب فقط, بل قد يكون ما حدث لتلك الفتاة الساذجة هو الكاشف لكل
التغيرات التي حدثت في المجتمع.
فتاتنا نشأت في أسرة عادية, مكافحة, مثل ملايين الأسر في مصر.. كانت
نصيحة الأم الراحلة هي تلخيصا واضحا لما وصلنا إليه خلي بالكم ياولاد من
بعضكم.. انتم مالكوش حد غير ربنا.. لا أقارب ولا جيران ولا قانون,
أنتم فقط حماة أنفسكم, لكن مالم تكن تعلمه الأم المكافحة أن الأولاد,
الأشقاء, ستنقطع بينهم حبال التواصل والمحبة والحوار والسؤال..
لذا وجدت الصغيرة الحالمة نفسها في مجتمع قاس وجاهل, يحاسبها علي عدم
زواجها, يعايرها بكلمة عانس, تحاصرها الوحدة, تطاردها غريزة الأمومة
والرغبة في الإنجاب قبل فوات الأوان.. والزواج في بلادنا صعب فالشباب لا
يتزوج إما للظروف الاقتصادية الصعبة أو لسهولة الانحراف بعد أن ضلت البنات
وغابت الأخلاق وضعف الإيمان.
لكن الصغيرة تربت في بيت طيب لا تريد إلا الحلال, وابن الحلال, الذي لم يعد يعرف الطريق المضمون والآمن إلي بنت الحلال.
لم تعرف الصغيرة أن أشياء كثيرة في مصر أصبحت عشوائية, لم تعرف أن عديمي
الضمير, اللصوص الجدد, اكتشفوا نوم القانون وغيابه.. صدقت أن لا
أحد, لا مكتب يمكنه الإعلان عن نفسه في صحيفة أو يضع لافتة مضيئة علي
واجهة عمارة إلا بتصريح.. صدقت أن كل من يطلق لحيته أو يمسك بمسبحة في
يده هو من المؤمنين المتمسكين بدين الله وسنة رسوله(]). فدخلت هذا المكتب
محترف النصب الذي استطاع صاحبه أن يؤجره بدون بيانات حقيقية, أو حتي
إبلاغ القسم التابع له وبدون ترخيص قانوني.
النصاب يجد ضالته في الطامع, والطامعة هنا تبحث عن الحلال, تتشبث
بأطراف الأمل, وحتي يكتمل النصب لابد أن يكون العريس مغريا ومجيدا لأصول
اللعبة.
لا أستطيع أن ألوم الصغيرة الجاهلة, ولا أقول لها كان عليك أن تتأكدي من
صحة أوراق هذا المكتب, وأن تستشيري أحدا من حولك, غير صديقتك التي
تعاني وتحلم مثلك. فأنا متفهم لكل ما تعانيه وما تحلم به. اللوم كله
للقانون الغائب, للوزارات التي قصرت في عملها وانشغلت بأشياء أخري غير
عملها فسمحت لمثل هذه المكاتب أن تخدع الأبرياء.. للشرطة التي تسمح
لأصحاب الشقق بتأجيرها مفروشة بأي اسم وبدون إخطار أو تسجيل.
اللوم كله للصحف التي تنشر إعلانات مثل هذه المكاتب بدون الحصول علي الأوراق الرسمية والتراخيص التي تؤكد صدق عملها.
أتمني أن تستفيد البنات من مأساة تلك الفتاة ولا يندفعن إلي شباك اللصوص
والنصابين عبر مكاتب الكذب والوهم ومصائد الإنترنت, ويثقن أن رزقهن سيصل
إليهن مهما بعدت المسافات والأزمات, وأن يلتزمن كل الحرص وهن يقدمن علي
الزواج, فأحيانا نسعي بأنفسنا إلي الشر والعذاب, آملين أنه الخير
والسعادة.
وسأتابع مع الصديق الدكتور هاني عبدالخالق ما تعرضت له هذه الفتاة من نصب
وأرجوها أن تساعدنا في إبلاغ الشرطة حتي يمكننا أن نصل إلي هؤلاء النصابين
حتي نعيد إليها حقها ونحمي آخرين من هذا المصير.. وكلي أمل أن نعيد إليها
بعضا من أمانها وسعادتها وأموالها المقترضة. وإلي لقاء قريب بإذن
الله.
يكتبه: خيرى رمضان
بطلة هذه القصة شابة مصرية متعلمة تبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين عاماً
جاءتنى باكية حزينة لتحكى لى ماحدث لها منذ ان نشأت فى بيت مكون من أب
مكافح وأم عظيمة لمجموعة من الإخوة والأخوات عاشوا حياة عائلية بسيطة
ومستقرة نسبياً فى أحد أحياء القاهرة الفقيرة.
وجاهد الجميع كي تصل سفينتهم الي بر الأمان, فكان الاهتمام الأكبر للوالد
أن علم البنات أفضل تعليم, أما الأولاد فلم يكن لهم هذا القدر من
الاهتمام, وكان كل هم الوالدة برغم مرضها الشديد أن تطعم وتكسي أولادها
بأفضل ما كان متاحا لديها في ذلك الوقت, ولايزال الجميع يردد مقولتها
الشهيرة التي كانت تكررها علي مسامعنا دائما خلي بالكم ياولاد من بعضكم
أنتم مالكوش حد غير ربنا.
واستمرت بطلة قصتنا قائلة: ومرت الأيام بحلوها القليل ومرها الكثير حتي
توفيت امي ـ رحمها الله ـ بعد معاناة طويلة مع المرض, فغابت عنا كل ألوان
السعادة, وسارت الحياة باهتة بلا معني حتي تزوج كل إخوتي وسافر كل منهم
الي خارج مصر, وتركوني وحيدة في دنيا واسعة قاسية لاترحم أحدا, ولم يعد
لي في هذه الدنيا سوي أب عجوز في الخامسة والثمانين من عمره يعاني كل
أمراض الشيخوخة.
ومشكلتي ياسيدي انني تقدم لي أكثر من عريس من مختلف المستويات والأعمار,
وفي كل مرة لانصل معا الي محطة الزواج لأسباب مختلفة, بعضها اقتصادية
وأغلبها اجتماعية ومع تعدي سن الثلاثين بدأت نظرات الناس القاسية وكلماتهم
الجارحة تطاردني في كل مكان, مما جعلني اطرق أبواب كل الزواج بعنف ومن أي
شخص بصرف النظر عن أي اعتبارات وظروف, فقط لكي أتخلص من كل هذه الظروف
التي تحاصرني من كل جانب, ومع مرور الأيام اختفي العرسان ونصحني بعض
الأصدقاء بالاستعانة بمكاتب الزواج التي بدأت تنتشر هذه الأيام في مصر
كنتيجة طبيعية لمشاكل تأخر سن الزواج وارتفاع نسب الطلاق وعزوف معظم الشباب
عن بناء أسرة جديدة بطريقة مشروعة.
والحقيقة ياسيدي انني ترددت كثيرا قبل أن أقدم علي هذه الخطوة الجريئة ولكن
كل الظروف المحيطة بي كانت تدفعني دفعا الي خوض هذه التجربة علي الأقل كي
ارتاح نفسيا وربما ايضا كي اقطع الطريق علي تلك النظرات والكلمات
اللاذعة, التي أعانيها ليل نهار, وفجأة وجدت نفسي بصحبة واحدة من
صديقاتي في مكتب فخيم أمام سكرتيرة حسناء تقدم لنا الحلول الممكنة وغير
الممكنة لكل مشاكل الارتباط وتقدم لنا كيفية السير في طريق الزواج وكأنه
مفروش بالورد والزهور دون أي مشاكل تذكر, وجلسنا في انتظار دورنا وسط
عشرات من الشباب والشابات من كل الأعمار الذين جاءوا من مختلف انحاء مصر
تداعبهم احلام الوصول الي شريك العمر.. وأخيرا جاء دورنا أنا وصديقتي
ودخلنا الي مكتب المدير فوجدناه رجلا فاضلا تتدلي من يده سبحة طويلة وحوائط
المكتب مليئة بلوحات كبيرة زينتها آيات من القرآن الكريم, وفور دخولنا
عليه بدأ حديثه معنا بالصلاة والسلام علي رسول الله وانتهينا بملء استمارة
بيانات كمرحلة أولي ثمنها خمسة وعشرون جنيها, ثم انتقلنا الي مرحلة أخري
من استعراض قوائم ومواصفات العرسان لاختيار مايناسبنا, وفور تحديد بعض
الاختيارات طلبت منا السكرتيرة سداد خمسة وسبعين جنيها بدعوي أننا دخلنا
الي مرحلة أكثر جدية.. وكانت دهشتنا تتزايد ونحن نستعرض نماذج العرسان
المطروحة وطلباتهم الغريبة والأغرب رؤيتهم للحياة المقبلة.. فهذا شاب
عمره سبعة وثلاثون عاما يحمل مؤهلا متوسطا وعنده شقة إيجار قديم ويعمل في
أعمال حرة مثل سمكري أو ميكانيكي أو نجار ويسكن مع أهله في عشوائيات منشية
ناصر أو المرج أو الخانكة ومع كل ذلك فهو يطلب عروسا صغيرة وزي القمر من
سكان الدقي أو المهندسين ومافيش مانع يكون عندها عربية وشوية فلوس في
البنك, وشاب آخر موظف بسيط يكاد يفك الخط وساكن في عزبة الهجانة وعايز
واحدة موظفة من سكان المقطم تصرف عليه لأنه لايجد عملا مناسبا لمؤهلاته
العظيمة, ونوع آخر من العرسان الشيك من ولاد الذوات الذي يطلب واحدة علي
مقاسه وماعندوش مانع يعيش معها عالة علي والدها في بيت أسرتها لحين
ميسرة!!
حاجات تضحك وتبكي لدرجة انني قررت الانسحاب من هذه التجربة, ولكن خذلتني
ارادتي فقررت ان اكمل المشوار وخاصة بعد أن لاحظت السكرتيرة ورئيس المكتب
ترددي فأمطراني بكلمات التشجيع جربي وانتي هاتخسري ايه وممكن يطلع حظك من
السما وتلاقي نصيبك والغريب ان المكتب حدد أتعابا تصاعدية لتسهيل عملية
التوفيق بين راغبي الزواج.. تتدرج حسب كل فئة من هؤلاء الشباب, وجدول
الأتعاب يبدأ بمائة وخمسين جنيها وينتهي بخمسمائة جنيه تشمل الأتعاب
والسمسرة لإتمام هذا الزواج وكأننا جواري في سوق النخاسة!! ولا أدري كيف
قبلنا بعض هذه العروض. وعدنا في اليوم التالي بالمبالغ المطلوب دفعها,
وكان من نصيبي شاب قدم نفسه علي أنه من سكان مدينة الرحاب وعنده فيلا
وعربية وشاليه في الإسكندرية ووقعت علي طلب الاتفاق علي الزواج ولكني فوجئت
بأن طلباته لإتمام هذا الزواج أكبر بكثير من امكاناتي وقدراتي المادية
والمعنوية, وتبادلنا النظرات وعلامات الاستفهام أنا وصديقتي التي كانت هي
الأخري قد وقع اختيارها علي شاب قدم لها نفسه هو الآخر فوجدته صديقتي من
أفضل العروض المطروحة, وكانت طلباته لا تقل كثيرا عن طلبات الشاب الذي
وقع عليه اختياري, مما جعلنا ننظر الي بعضنا البعض وفي نفس واحد كان
السؤال الذي يطرح نفسه.. ما العمل الآن ؟؟ وهنا تدخل رئيس المكتب قائلا
المشكلة محلولة بس انتوا وافقوا وأنا علي التمويل والأعمال بالنيات.
وبدأ الحديث عن آلاف الجنيهات المطلوبة لزوم الشبكة والفرح والعفش والشقة
وحتي فستان الفرح والكوافير, والصراحة قلبي وقع وقلت الجوازة دي مش هتكمل
ولكن كان بداخلي احساس قوي يدفعني كي أكمل المشوار, وخاصة بعد أن شرح
لنا صاحب المكتب ان الموضوع سهل جدا لأننا سنأخذ قرضا من أحد البنوك في
حدود ثلاثين ألف جنيه تسدد بالتقسيط المريح وبضمان المكتب وقدم إلينا
مجموعة من الأوراق والمستندات التي قيل لنا انها لزوم القرض من البنك,
وبالفعل اقنعونا بالتوقيع عليها, وفي اليوم التالي ذهبنا الي البنك لتسلم
القرض وفور تسلم المبلغ فوجئت بصاحب المكتب والسكرتيرة يقتادانني الي مقر
المكتب ويقولان لي أن المكتب سيأخذ خمسة وعشرين الفا للصرف علي هذا الزواج
وهذا هو شرط البنك لصرف القرض! أما الخمسة آلاف المتبقية فهي مخصصة لي
لشراء مستلزماتي الشخصية أيضا بمعرفة المكتب!! ولا أدري ياسيدي كيف وافقت
علي ذلك.. فهل بسبب رغبتي لإتمام الزواج فعلا أم بسبب حال الضعف التي
انتابتني أمام احساسي بالحصار الذي فرضه صاحب المكتب والسكرتيرة.
وكان من الطبيعي أن أسأل هذا الشاب الذي اخترته ليكون زوج المستقبل متي
سيبدأ الإجراءات الفعلية لإتمام هذا الزواج, وكان من الطبيعي ان يطلب مني
تحديد موعد ليزور أهلي, وقلت له علي طريقة هند صبري في مسلسلها الشهير
عاوزه أتجوز اتفضل فورا..
وبالفعل جاء عريس المستقيل في اليوم التالي والتقي بوالدي وعرض عليه خطوات
هذا الزواج المرتقب واطمأن قلبي قليلا بعد أن كنت قد انتابتني بعض
الشكوك, وفي اليوم التالي مباشرة قام بزيارة أخري لوالدي لمناقشة بعض
التفاصيل المتعلقة بالشبكة والفرح والمعازيم وغيرها, وكدت أطير فرحا بعد
أن اقترب الحلم من الحقيقة..
ومر أسبوع كنت فيه هائمة وسط احلام الغد القريب حتي انني لم اتوقف طويلا
عند عدم اتصاله بي طوال هذا الأسبوع وأفقت علي سؤال كل من حولي.. أين
العريس ومتي يتم تحديد موعد الفرح واتصلت به علي تليفونه المحمول فوجدته
خارج الخدمة فاتصلت بالمكتب فلم أجد من يرد وساورتني الشكوك فذهبت الي مقر
المكتب فوجدته مغلقا هو الآخر وتصاعدت شكوكي, وهرولت الي المكتب فسألت
الجيران وبواب العمارة المجاورة واتفق الجميع علي اجابة واحدة دي كانت شركة
مآجرة شقة مفروشة وعزلوا منها وهنا تأكدت مخاوفي وعرفت أنني وقعت ضحية
لعملية نصب محكمة, وادركت حجم الكارثة التي وقعت فيها..
ودارت الأرض تحت أقدامي وانطويت علي نفسي وأحزاني لفترة طويلة لا أدري كيف
اتصرف, وخطر لي أن اتردد علي مقر المكتب من آن الي آخر, فربما أعثر ولو
علي خيط رفيع يقودني الي صاحب الشركة أو العريس الهارب واكتشفت انني لست
الضحية الوحيدة التي تراقب المكتب ولكن هناك العشرات من الضحايا من الشباب
والشابات الذين شربوا نفس المقلب, وعدت الي بيتي منكسرة حزينة لا ادري
ماذا أفعل ولم أجد لدي الجرأة ان اشارك والدي في مأساتي خوفا عليه من
الصدمة خاصة انني علي ثقة أنه لايملك حلا لهذه المأساة.. ومع بداية الشهر
التالي بدأ البنك المطالبة بأول الأقساط الشهرية للقرض وقيمته831
جنيها, وبالطبع عجزت عن السداد, وكيف اسدد وانا لا أعمل وليس لنا أي
دخل للأسرة سوي مبلغ ضئيل لا يكاد يكفي لمستلزمات الحياة البسيطة,
وتكاليف علاج والدي المريض, خاصة انني أخفيت الموضوع كله عن إخوتي وأقرب
الناس الي خوفا من لومهم وعتابهم وليتني فعلت..
ومرت الشهور حتي بلغ مجموع الأقساط المتأخرة حتي الآن5500 جنيه, ولم
يعد أمامي الا ان اطرق الأبواب أملا في إيجاد مخرج من تلك الكارثة التي
وضعت فيها نفسي بجهلي وقلة عقلي.. وخرجت هائمة علي وجهي بحثا عن أي عمل
لسداد قرض البنك قبل أن أجد نفسي معرضة للحبس!!
والآن ياسيدي لا أدري الي من أتوجه باللوم والعتاب!! هل إلي المجتمع الذي
لم يرحم ظروفي وآدميتي ومارس علي كل ألوان ووسائل الضغط العصبي والنفسي
حتي دفعني الي تلك المغامرة غير المحسوبة؟؟.. أم الي أهلي وجيراني الذين
تركوني فريسة سهلة لبعض الذين فقدوا ضمائرهم وأعماهم جمع المال والثروة ولو
علي جثث ضحايا لاحول لهم ولاقوة؟؟ أم الي القانون الذي أعطي البعض الفرصة
لافتراس الضعفاء والمساكين دون عقاب رادع؟؟ أم ألوم نفسي وجهلي وتهوري
وخروجي علي الأعراف والتقاليد التي تربينا عليها؟؟
وقررت أن أتوجه الي الله الذي لايغفل ولاينام وأدعوه صادقة أن يساعدني علي
تجاوز تداعيات تلك المأساة وهذا الخطأ والجرم الكبير الذي ارتكبته في حق
نفسي, وفي الوقت نفسه رأيت ان أقدم قصتي لقراء بريد الجمعة لعلها تكون
عبرة وعظة لمن هم في مثل ظروفي حتي لايقعوا في نفس الخطأ.. وأقول لهم ان
الزواج رزق من عند الله يرزقه من يشاء عندما يشاء, ويجب الا نستعجل الرزق
ففي السماء رزكم وماتوعدون
* ما سطره الصديق المبدع الحكيم د.هاني عبدالخالق في هذه الرسالة,
علي لسان تلك الفتاة يكشف أزمة مجتمع متكاملة ومتصاعدة. فالقضية ليست في
عملية النصب فقط, بل قد يكون ما حدث لتلك الفتاة الساذجة هو الكاشف لكل
التغيرات التي حدثت في المجتمع.
فتاتنا نشأت في أسرة عادية, مكافحة, مثل ملايين الأسر في مصر.. كانت
نصيحة الأم الراحلة هي تلخيصا واضحا لما وصلنا إليه خلي بالكم ياولاد من
بعضكم.. انتم مالكوش حد غير ربنا.. لا أقارب ولا جيران ولا قانون,
أنتم فقط حماة أنفسكم, لكن مالم تكن تعلمه الأم المكافحة أن الأولاد,
الأشقاء, ستنقطع بينهم حبال التواصل والمحبة والحوار والسؤال..
لذا وجدت الصغيرة الحالمة نفسها في مجتمع قاس وجاهل, يحاسبها علي عدم
زواجها, يعايرها بكلمة عانس, تحاصرها الوحدة, تطاردها غريزة الأمومة
والرغبة في الإنجاب قبل فوات الأوان.. والزواج في بلادنا صعب فالشباب لا
يتزوج إما للظروف الاقتصادية الصعبة أو لسهولة الانحراف بعد أن ضلت البنات
وغابت الأخلاق وضعف الإيمان.
لكن الصغيرة تربت في بيت طيب لا تريد إلا الحلال, وابن الحلال, الذي لم يعد يعرف الطريق المضمون والآمن إلي بنت الحلال.
لم تعرف الصغيرة أن أشياء كثيرة في مصر أصبحت عشوائية, لم تعرف أن عديمي
الضمير, اللصوص الجدد, اكتشفوا نوم القانون وغيابه.. صدقت أن لا
أحد, لا مكتب يمكنه الإعلان عن نفسه في صحيفة أو يضع لافتة مضيئة علي
واجهة عمارة إلا بتصريح.. صدقت أن كل من يطلق لحيته أو يمسك بمسبحة في
يده هو من المؤمنين المتمسكين بدين الله وسنة رسوله(]). فدخلت هذا المكتب
محترف النصب الذي استطاع صاحبه أن يؤجره بدون بيانات حقيقية, أو حتي
إبلاغ القسم التابع له وبدون ترخيص قانوني.
النصاب يجد ضالته في الطامع, والطامعة هنا تبحث عن الحلال, تتشبث
بأطراف الأمل, وحتي يكتمل النصب لابد أن يكون العريس مغريا ومجيدا لأصول
اللعبة.
لا أستطيع أن ألوم الصغيرة الجاهلة, ولا أقول لها كان عليك أن تتأكدي من
صحة أوراق هذا المكتب, وأن تستشيري أحدا من حولك, غير صديقتك التي
تعاني وتحلم مثلك. فأنا متفهم لكل ما تعانيه وما تحلم به. اللوم كله
للقانون الغائب, للوزارات التي قصرت في عملها وانشغلت بأشياء أخري غير
عملها فسمحت لمثل هذه المكاتب أن تخدع الأبرياء.. للشرطة التي تسمح
لأصحاب الشقق بتأجيرها مفروشة بأي اسم وبدون إخطار أو تسجيل.
اللوم كله للصحف التي تنشر إعلانات مثل هذه المكاتب بدون الحصول علي الأوراق الرسمية والتراخيص التي تؤكد صدق عملها.
أتمني أن تستفيد البنات من مأساة تلك الفتاة ولا يندفعن إلي شباك اللصوص
والنصابين عبر مكاتب الكذب والوهم ومصائد الإنترنت, ويثقن أن رزقهن سيصل
إليهن مهما بعدت المسافات والأزمات, وأن يلتزمن كل الحرص وهن يقدمن علي
الزواج, فأحيانا نسعي بأنفسنا إلي الشر والعذاب, آملين أنه الخير
والسعادة.
وسأتابع مع الصديق الدكتور هاني عبدالخالق ما تعرضت له هذه الفتاة من نصب
وأرجوها أن تساعدنا في إبلاغ الشرطة حتي يمكننا أن نصل إلي هؤلاء النصابين
حتي نعيد إليها حقها ونحمي آخرين من هذا المصير.. وكلي أمل أن نعيد إليها
بعضا من أمانها وسعادتها وأموالها المقترضة. وإلي لقاء قريب بإذن
الله.