بسم الله الرحمن الرحيم
لماذا تراجعت الهوية الوطنية السودانية
وتوغلت في الأثنية والقبلية والإقليمية
عندما يسقط الاحترام يرقص الشيطان طربا
لماذا تراجعت الهوية الوطنية السودانية
وتوغلت في الأثنية والقبلية والإقليمية
عندما يسقط الاحترام يرقص الشيطان طربا
قبل
قيام الثورة الفرنسية ، في أواخر القرن الثامن عشر ، لقد مرت البشرية
بمراحل تاريخية عديدة ، مثل البدائية المشاعية والرق والاقطاع ، ثم الثورة
البرجوازية ، حسب تقسيمات بعض علماء علم الاجتماع ، ولم تكن تلك الفترات ،
تعطي أهمية كبيرة لدولة الوطنية National Country
والتي تترجم بالعربية احياناً بالدولة الوطنية واحياناً بالدولة القومية .
وكان لتلك المراحل التاريخية نظمها الاجتماعية وقوانينها ، التي تحفظ لكل
طبقة اجتماعية حقها ، علي الرغم من الظلم الذي كان يقع علي بعض الطبقات ،
ولم تكن التشريعات البشرية متطورة بالصورة التي هي الآن ، لحفظ وصون كرامة
الإنسان وإنهاء حالة استغلال الإنسان لأخيه ، وفق ما جاءت في الشرائع
السماوية والنظريات الاجتماعية التي اهتمت بمسألة العدالة الاجتماعية ،
والمساواة بين افراد المجتمع البشري . وكذلك لم تكن هناك اهتمام كبير
بمسألة الحدود الجغرافية لدول ولا شكل الحكم كما هو متعارف
عليه في العصر ، الراهن بل كانت معظم الحكومات في شكل ممالك قد تكون
السلطة فيها مطلقة في يد السلطان او الملك وخاصة في أفريقيا واسيا وأمريكا
اللاتينية . وبعد قيام الثورة الفرنسية ، برزت مسالة الدولة الوطنية National Country وتعززت المفاهيم الخاصة بالهوية الوطنية تحت شعارات الإخاءوالحرية
، وحاول كثرين من المفكرين ، وضع مفاهيم ونظريات تأكد علي الهوية الوطنية ،
وإعلاء هذه الهوية فوق كل الهويات الاخري الضيقة ، التي كانت تعبر عن
نفسها في المراحل التاريخية التي ذكرناها في السطور السابقة ، وتزامن بروز
روح الهوية الوطنية مع تصاعد الثورة البرجوازية الصناعية في أوربا ، والتي
اضطرت قادة تلك الثورة ، ان تصدر مفاهيمها الي قارات اخري مثل آسيا
وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لتغيير نظم الحكم التي كانت قائمة في تلك
البلاد ، بغرض إيجاد حلفاء جدد لها ، حتى تتمكن من السيطرة علي موارد تلك
البلاد وخاصة المواد الخام ، التي يمكن ان تضمن استمرارية المصانع في اوربا
، وخلق أسواق في البلاد التي فتحت حديثاً ضمن الحملة الاستعمارية
(القولونالية) واستمرت النهب الاستعماري لهذه المناطق ، والتأثير الثقافي
له وانتقلت مفاهيم الدولة الوطنية لتلك المناطق . وأثرت تلك الظاهرة حتى
علي دولة فوق الوطنية أي الدولة القومية وخاصة الدولة العربية الإسلامية
في المشرق والمغرب العربي والتي بلورت بالتفاعل الطوعي والاندماج الايجابي
بين المجموعات العربية التي هاجرت من الجزيرة العربية الي شمال أفريقيا
وغربها ... ولم تترك السياسيات الاستعمارية ان تستكمل الدولة القومية
وحدتها وبلورة تكوينها القومي ، و شروط نهضتها في التحرر والتقدم الاجتماعي
، والانبعاث الحضاري . وقد عملت اتفاقية سايكوس بيكو إلي تقسيم البلاد إلي
أقطار صغيرة ، ورسم الحدود بين الدول ، وترك هذه الدول الصغيرة تتأسس علي
مفاهيم الدولة الوطنية الحديثة باستعارة نظام الحكم من الدول الاستعمارية ،
والنظام الاقتصادي والاجتماعي لها ، ولم تكن تلك النظم تلائم
وضعية الدول حديثة التكوين ، لانظام الحكم القائم علي اللبيرالية السياسية
، ولا النظام الاقتصادي القائم علي سيطرة الرأسمال الأجنبي والعلاقات
التجارية بين هذه الدول حديثة التكوين ذات الاقتصاد التقليدي القائم علي
الاكتفاء الذاتي ، واقتصاديات متطورة تجاوزه المراحل البدائية وتوفرت لها
البنيات الأساسية لنمو الاقتصادي .
هذا
الخلل في عدم التوازن في نظم الحكم والنظام الاقتصادي الاجتماعي بين الدول
حديثة التكوين في أفريقيا واسيا وامريكا اللاتنية والدول الأوربية (أي بين
دول شمال العالم وجنوبه) أدت إلي بروز طبقات اجتماعية في الدول الحديثة
تتطابق مصالحها مع تلك التي توجد في الدول الأوربية وعجزت تلك القوي
الاجتماعية التي تربعت علي سدة الحكم في ان تخلق نظام ديمقراطي حقيقي يؤدي
إلي مشاركة كل أبناء الوطن حسب القدرات والمؤهلات دون المحاباة وبعيداً عن
النظرة الذاتية ، وكذلك فشلت تلك القيادات والنخب السياسية في أفريقيا علي
وجه الخصوص " تعتبر النخب السياسية السودانية التي توالت علي السلطة بعد
الاستقلال خير مثال للنخب الفاشلة " كما فشلت ان تجد نظام اقتصادي يحقق
الاستقلال الاقتصادي والتنموي ، كما عجزت عن تفجير طاقات شعوبها في البناء
والتعمير ، حتي تحقق التوازن التنموي في أجزاء متفرقة من بلدانهم حتى تقوم
الدولة الوطنية بوظيفتها كاملاً ويشعر كل مواطن فيه كرامته حتى يحترم
الدولة ويحرص في بقائها ، والنظم القائمة فيها ، ويتمسك بهويته الوطنية ،
التي تعلو كل الهويات الصغيرة الاخري ، مثل الأثنية والقبلية والإقليمية .
ففي السودان أخذت مفهوم الهوية الوطنية في التراجع منذ 1955م بعد أجراء
عملية سودنة الوظائف والشعور التي انتابت أبناء شعبنا في الجنوب ، بالظلم ،
أي رأوا ان القسمة التي تمت في توزيع الوظائف ، للسودانيين بعد تخلي
الإنجليز لتلك الوظائف بأنها لا تناسب حجم الجنوبيين المتعلمين القادرين
علي ان يتبؤا تلك الوظائف وكان احد أسباب تمرد 1955م هو عدم التوازن في
التوزيع الوظائف بين النخب في الشمال والجنوب ، ولم تستطيع تلك النخبة التي
ظلت تمسك بمقاليد الأمور ان تخلق الثقة بين الشمال والجنوب . تلك الثقة
التي كانت هشة بفعل السياسة الاستعمارية ، مثل قانون المناطق المقفولة ،
الذي كان تنتهجه النظام الاستعماري في السودان ... أضف علي ذلك سياسات
النظام العسكري الأول ، نظام 17/نوفمبر/1958م بإتباع سياسة الأرض المحروقة
في الجنوب ، أي الحسم العسكري ، حتى جاءت ثورة 21 أكتوبر 1964م التي كانت
احد أسبابها المباشرة هو تفاخم الحرب الأهلية في الجنوب ، ومع بروز القوي
الوطنية السودانية ذات برنامج وطني تقدمي بعد ثورة أكتوبر وخاصة التيار
القومي الاشتراكي تبلورة مفاهيم جديدة تجاه حل مشكلة الجنوب كانت تصلح
كأساس نظري جيد لحل المشكلة ، وهي الاعتراف بواقع التمايز الثقافي والحضاري
بين جنوب القطر وشماله وان يترتب علي هذا التمايز الثقافي والحضاري حقوق
ثقافية وقانونية واقتصادية للجنوب . ولكن النخبة التي ولت أمر البلاد بعد
ثورة أكتوبر وحسب تكوينها الاجتماعي سواء كان في الشمال او الجنوب لم تكن
قادرة علي احداث تغيير جذري في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد ،
ولم تكن قادرة علي ان تقوم بإنجاز مهام الذي طرح ما بعد الاستقلال السياسي
1956م ولم يقتصر مظاهر الرجوع والنزوح إلي الإقليمية علي حساب الهوية
الوطنية في جنوب القطر فقط بل ظهرت الحركات الإقليمية المطلبية الاخري مثل
اتحاد جبال النوبة ، جبهة نهضة دار فور ومؤتمر البجا بالشرق ، تنادي بمطالب
إقليمية بحتة ، دون النظر الي القضية الوطنية بشكلها الشمولي ، وشكلت هذه
الظاهرة في حد ذاتها خطوة إلي الوراء في الهوية الوطنية ومزيد من التوغل
نحو الإقليمية تمهيداً لللاثنية والقبلية وقد عجزت القوي الاجتماعية التي
تسلمت السلطة بعد ثورة أكتوبر ان تنجز المهام الذي كان ينتظرها سواء كان في
الجانب التغير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ، أي ان تخلق معادلة موزونة
بين الديمقراطية كنظام للحكم ، وبين الإنجاز لصالح الغالبية العظمة من
أبناء الشعب الكادحين ، من فقراء الريف وسكان الأقاليم البعيدة من تخوم
البلاد ، حتى يتم عملية الشد نحو المركز تعزيزاً لهوية الوطنية ، وتضيقاً
لهويات تحت الوطنية (الأثنية والقبلية والإقليمية) بل فشلت تلك النخب ان
تحافظ علي مصالح بعضها في البرلمان ، وتحافظ علي الديمقراطية الشكلية
الفاقدة لإنجاز أي ديمقراطية الليالي السياسية ووتعتبر حادثة حل الحزب
الشيوعي السوداني وطرده من البرلمان من اكثر التجسيدات وضوحاً لفشل النخب
السياسية ان تحافظ النظام الديمقراطي الليبرالي الشكلي ، والعمل علي تطويره
ـ تاكيداً علي مبدأ ان الديمقراطية لا تتطور الا بمزيد من الديمقراطية ـ
وبالتالي فشلت حكومة الديمقراطية الثانية ان تحل مسألة الجنوب علي الرغم من
الاطروحات الجيدة التي ظهرت من قبل القوي الديمقراطية آنذاك ، مع بروز
حركات مطلبية جهوية ـ (اتحاد جبال النوبة جهة نهضة دار فورـ مؤتمر البجة )
أدت إلي صعود مغامرين جدد من العسكر الي السلطة عبر انقلاب 25/مايو/1969م
وعلي الرغم من البرنامج الوطني التقدمي الذي طرح من قبل قادة الانقلاب ،
وخاصة بيان 9 يونيو 1969م والخاص بحل مشكلة الجنوب حلاً سلمياً ديمقراطياً
بإعطاء شعبنا في الجنوب حكماً ذاتياً ضمن وحدة القطر الا ان التركيبة
الاجتماعية لقادة الانقلاب لم تؤهلها للعب بالدور الوطني المنود لها علي
الرغم من نجاحهم في الوصول إلي اتفاقية أديس ابا 1973م بين حركة التمرد
الأول انانا (One)
ونظام انقلاب 25 مايو 1969م الا ان في خاتمة المطاف أدي إلي ان ينتهي نظام
25 مايو إلي أسوة أنظمة وطنية في البلاد من حيث القمع وإرهاب المواطنين
دون الخوض في الإنجاز ومحاولة إسكات لأي صوت ينادي بالديمقراطية والحرية
وحقوق الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعاق نظام 25/مايو أي
تطور اجتماعي واقتصادي في البلاد ومن ثم حدوث فتور في الحماس تجاه الانتماء
الوطني ... وعندما ابتدع النظام صيغة التنظيم الواحد ، الاتحاد الاشتراكي
السوداني ، وحظر أي نشاط حزبي ،ظل اللاعبين في المسألة السياسية ضمن تنظيم
النظام الأوحد ـ الاتحاد الاشتراكي السوداني ـ يبحثوا عن مراكز القوي
ومصادره ـ لخلق تنافس ضمن نظام الاتحاد الاشتراكي ـ وما كان علي هؤلاء الا
اللجوء الي دوائر انتماءاتهم الضيقة سواء كان التنافس علي المستوي اللجنة
المركزية في الخرطوم يستخدم في ذلك قوي الإقليمية ـ إذا كان في إقليم دار
فور او كردفان ـ جنوب او الشرق او الأوسط او الشمالي ـ حسب الأقاليم التي
كانت سائدة في تلك الفترة اما إذا كانت المنافسة علي مستوي الإقليم تكون
الاليه المستخدمة هي المركز المحلي وإذا كانت المنافسة علي مستوي المركز
المحلي تكون الالية المستخدمة في ذلك هي آليه القرية او القبيلة ، وهكذا
تراجعت الهوية الوطنية تدريجياً في غياب نظام ديمقراطي واجتماعي قادر علي
رعاية المواطنين في عموم القطر بغض النظر عن انتمائهم الإقليمي والاثني
والقبلي وفي ظل ممارسات النظام واعوانه في تنظيم الاتحاد الاشتراكي . تبخرت
السلام الذي تحقق في الجنوب عبر اتفاق أديس أبابا لسبب غياب الديمقراطية،
لان الحكم الإقليمي الذاتي يحتاج لديمقراطية حقيقية وفاقد الشىء لا يعطي .
وليس من المعقول ان يكون نظام ديمقراطي في جزء من الوطن وديكتاتوري في
أجزاء اخري من نفس الوطن . ولذلك السبب تجددت الحرب الأهلية في الجنوب في
أغسطس 1983م . وسارت الأوضاع كما هو عليه في نظام حكم ديكتاتوري في المركز
وبروز منافسة في الأقاليم وفقاً لانتماءات الضيقة الأثنية القبلية
الإقليمية إلي ان تم إسقاط نظام جعفر نميري في 16/ابريل/1985م عبر انتفاضة
شعبية وجاء الفترة الانتقالية ، وعادت الأحزاب السياسية إلي ممارسة العمل
السياسي العلني في الشمال وهي منهكة من القمع والاضطهاد طوال 16 عاماً .
الامر الذي اثر سلباً علي قدرتها في التاثير علي الاتجاهات والانتماءات
الضيقة . وظل الجنوب تحت نيران الحرب الأهلية وظهرت في الفترة المذكورة
عديد من القوي الإقليمية فقدت الثقة في مفهوم الدولة الوطنية تحت اسم اتحاد
قوي الريف ، جمعت في صفوفها أبناء بعض المناطق التي قامت بها حركات مطلبية
بعيد ثورة 21/أكتوبر مثل دار فور ـ جبال النوبة ـ مؤتمر البجة في الشرق
وظهر كذلك اتحاد الاحزاب الجنوبية ككتلة برلمانية في الجمعية التأسيسية
تخوض العمل السياسي وفقاً لنظرية الإقليمية علي الرغم من ان العضوية في
الجمعية التأسيسية يعطي الحق لكل عضو في مناقشة قضايا الوطن بالأفق الشامل .
والجدير بالذكر هنا ان بعض اعضاء حزب الجبهة الإسلامية من الجنوبيين كانوا
يصطفون الي الصف الاقليمي ضد حزبهم في بعض القضايا . وكذلك عند ظهور
الصراع القبلي بين الفور وبعض القبائل العربية في دار فور ، بدلاً عن تعمل
احزاب الائتلاف علي حل الصراع ، اصطفت هي نفسها علي الاساس الاثني علي سبيل
المثال حزب الامة مع العرب والاتحاد الديمقراطي مع الفور . وكذلك ساهمت
الاطروحات العقائدية لدعاة الإسلام السياسي المتمثلة في حزب الجبهة
الإسلامية والتي دعت الي الحسم العسكري للقضية الجنوب ، وحدث تصعيد مضاد من
قبل حركة التمرد في الجنوب ، وخلق بعض المفاهيم في أوساط بعض السودانيين
وحدث انقلاب وعي في تشخيص الصراع ، بدلاً أن يكون فهم الصراع الذي سبب
المعارضة المسلحة في الجنوب ، صراع سياسي واجتماعي بدأ يفهم بأنه صراع
الهوية ، أي أن لشمال السودان هوية عربية إسلامية ولجنوب السودان هوية
مسحية غير العربية ـ هذا كان عند دعاة الإسلام السياسي ، ودعاة التوجهات
الانفصالية في الجنوب ، وبعد 30يونيو 1989م تم استيلاء السلطة بواسطة دعاة
الإسلام السياسي ، وامتلكوا السلطة والقرار السياسي وصعدوا العمليات
الحربية في الجنوب تحت راية الجهاد الإسلامي باسم الإسلام ، وادي ذلك
التوجه الي مزيد من التمسك الطرف الأخر بالهويات تحت الوطنية ومع استمرار
الحرب في الجنوب ، والتقاء المعارضة الشمالية مع المعارضة المسلحة في
الجنوب ضمن صيغة التجمع الوطني الديمقراطي وظهور دعاة الانفصال ضمن
المعارضة المسلحة في الجنوب دفعت حتى القوي الوطنية الشمالية إلي اقرار
مبدأ انفصالي هو تقرير المصير في المؤتمر الشهير ، مؤتمر القضايا المصيرية
باسمرة 1995م ـ وهي نتيجة التراجع في الهوية الوطنية والتوغل في الهويات
تحت الوطنية (الأثنية ـ القبليةـ الإقليمية ) وساعد في ذلك ، القوي
الخارجية عند المساعدة والاستشارة في عملية تحقيق السلام عبر مبادئ دول
الإيجاد وأصدقائها ، وأجبرت تلك الدول الحركة الشعبية لتحرير السودان من ان
تتخلي عن المناداة بحل قضية السودان ككل لتتقوقع حول الجنوب فقط ، وكذلك
لفك الارتباط بين المعارضة الشمالية وتبرم اتفاق سلام ثنائي مع نظام
30يونيو وفي وثيقة اتفاق سلام نيفاشا تم ولأول مرة إقرار كامل لمطلب
الإقليمية عبر اتفاق شهودة من دول اخري . وشكلت الطريقة والكيفية التي
أبرمت الاتفاقية اعلي مراحل التراجع في الهوية الوطنية والتوغل في
الإقليمية ... وخاصة وضعية المناطق الثلاثة ابيي ـ جبال النوية ـ النيل
الأزرق والحديث عن الحدود داخل الدولة الواحدة ـ كأن المناطق الثلاثة لا
تنتمي الي الدولة السودانية ... واتنقلت حمي نيفاشا الي دار فور ـ في الوقت
التي كانت تجري محادثات في نيفاشا كان حركات المعارضة المسلحة الدارفورية
في طور التكوين ، هذه الحركات هي نتائج فشل الدولة الوطنية في ان تخلق
اندماج بين أجزاء الوطن بالتنمية والربط الثقافي والاتصالي بالمركز ، وكما
فشلت النخبة الحاكمة في خلق حالة التعايش بين المواطنين بل استمدت نظام
30/يونيو/1989 قوته في تفتيت الكيانات التي ظلت منذ الاستقلال متعايشة في
وئام اجتماعي كامل ومنصهرة مع بعضها البعض عبر التفاعل الايجابي والعلاقات
الإنسانية والاجتماعية التي ترتق النسيج الاجتماعي لشعب ، وعملت ممارسات
سلطة الإنقاذ بدرجة كبيرة جداً في التشجيع علي صعود الهويات تحت الوطنية
وخاصة في إقليم دار فور ، حيث اصبحت القبيلة من احد اهم وسائل الشراكة
السياسية في السلطة علي مستوي الاقليم والمركز . وقامت الحركات المسلحة
المعارضة في دار فور علي نفس نهج النظام ن وكان احد مظاهر الضعف فيها ،
التي عجزت عن تحول حالة الغبن السائدة في الإقليم إلي فعل ثوري حقيقي
للتغيير الجذري للأوضاع في البلاد ، وانتهت هي نفسها إلي نفس النهايات التي
بدأت بالتوغل في مزيد من الاثنية والقبلية وتعددت هذه الحركات وبالرجوع
إلي أي مجموعة من تلك المجموعات المنشقة ،قد نجد أنها ذات بعد قبلي او اثني
اوعشائري .
هناك
حقيقة اخري وهي التحولات التي حدثت للنظام العالمي بعد انهيارات المتسارعة
في المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي ، وبروز الأحادية القطبية
وشعاراتها ، العولمة والخصخصة الاقتصادية وهي عقلية بناء إمبراطورية جديدة ،
ومقابل هذا القطب هناك قطب الشعوب ، وهو القطب الرافض للنظام العالمي
الراهن المؤسوم بمعايير مزدوجة تجاه الاحداث في العالم ، والقائم علي الظلم
وتركيز الثروة في يد مجموعة الشركات عابرة القارات ، والاهتمام بالربح
اكثر من أرواح البشر ، نلاحظ ان فلسفة العولمة الاقتصادية تعتمد آليات تسمي
بخصخصة السياسة اي بدلاً ان يكون هناك تنظيمات وطنية قومية تنادي
بالكيانات السياسية الكبري دول وطنية أو قومية او تكتلات سياسية واقتصادية
... الخ وترفع هذه الكيانات شان القطاع العام اوالعمل الجماعي تريد ان
تقوم السياسة علي أساس الكيانات الصغيرة الأثنية والقبلية والإقليمية
واعلأ القيم الفردية ، حتى تجد الإمبراطورية الجديدة مجالها في السيطرة علي
مقدرات الشعوب في دول العالم الثالث سواء كان في أفريقيا او آسيا او
أمريكا اللاتينية وكما يعتقدون أنصار القطبية الأحادية بان قيام وتشجيع
الكيانات تحت الوطنية يمكنها ان تفسح المجال في تمرير مخططاتها دون ان تجد
مقاومة تذكر ومن ثم إخضاع كل العالم في فلكها باسم الحكومة العالمية او
باسم محاربة ما تسميه بالإرهاب ، او حماية المدنين وحقوق الإنسان بعد ان
تهئ المسرح لذلك أي ان تكمن اطراف الصراع في البلد المعني بالدعم اللازم
مادياً واعلامياً لاحداث أفظع ماسي إنسانية ومن ثم الدخول باسم الامم
المتحدة والقوات الدولية لحفظ السلام .وهذه القوات ما هي الا خبراء في
تفتيت الكيانات الكبيرة وانشاء دويلات طائفية واثنية تقف حجر عثرة امام أي
حس وطني وانتماء قومي صادق .
الخاتمة :ـ
اولاً : أسباب ظاهرةالقبلية :ـ
1/
غياب نظام حكم ديمقراطي يمكن في التوزيع العادل للسلطة عبر انتخابات حرة
ونزيهة ويحقق التوازن بين القوي التقليدية والقوي الحديثة في السلطة .
2/ فشل القيادات التي تربعت علي سدة الحكم خلال واحد أربعون عاماً من الاستقلال سواء كانت مدنية او عسكرية .
3/ عدم استيعاب القيادات من
دروس الماضي بان النظام الديمقراطي له جانبان الأول اجتماعي متعلق
بإنجازات لصالح غالبية العظمي من الجماهير وجانب سياسي هو بسط الحريات
الأساسية ـ من حرية الاعتقاد والتنظيم والتجمع والتظاهر ...الخ .
4/
غياب التنمية من حيث الكم والنوع ـ النوع مطلوب طريق خاص للتنمية المستقلة
عن تأثيرات الأسواق العالمية الرأسمالية ،وان ترتب اولويات التنمية بحيث
تحدث تغير في البنية التقليدية للمجتمعات الريفية جغرافياً. و يحدث تغير
اجتماعي بين الطبقات الكادحة حتى يخلق روح وطنية ، لان الهوية الوطنية
والانتماء لها شىء مكتسب وليس شىء فطري .
5/
العامل الخارجي متمثل في الاختراقات الأجنبية لكيانات والمؤسسات والافراد
والقبائل ، فان التامين والتحصين الافراد في الدولة من ظاهرة الاثنية
والقبلية والإقليمية لا يتم الا عبر نظام حكم يستطيع ان يقوم بواجبه كاملة
تجاه المواطن حتى يشعر المواطن ان وجود الدولة ضروري أي كان مستوي وعي
الفرد .
ثانياً : التوصيات :ـ
1/
ان الانتماءات الضيقة مثل الاثنينة والقبلية والإقليمية هو حق لكل مواطن
في السودان وواقيعاً ينتمي كل مواطن لاحد هذه الهويات ، ويدافع عنها ويعبر
عن حبه لهذه الهوية ، ولكن تظل هذه الهوية هي هوية فرعية تحت خيمة اكبر هي
السودان ، ويصبح من الضروري ان يتسامي هذا الانتماء إلي نطاق أرحب واشمل
ليشمل الانتماء الواعي للسودان كله ، وهذا ما يمكن التعبير عنه بهوية الوعي
، التي يجب ان نعمل علي ترسيخها بالتربية الوطنية الرفيعة .
2/
ان تسمك القيادة السياسية في البلاد بالهوية الوطنية قولاً وعملاً عبر خطط
التنمية الجادة هي اقرب طريق للعودة إلي الهوية الوطنية الشاملة ، التي
تعلو كل الهويات تحت الوطنية من الأثنية والقبلية والإقليمية .
3/
لكي نعود إلي الروح الوطنية وبناء الحس القومي الأصيل نحتاج لنوعية خاصة
من القيادات السياسية ، والافراد الذين يتولون شئون العمل السياسي في هذه
المرحلة ، ان يكون لديهم اخلاق الرسل والأنبياء والخلفاء الراشدين . وان
يرتفع العمل السياسي إلي مستوي العمل الرسالي بعيداً عن الوصولية
والانتهازنة وان يتطابق العمل بالقول والنظرية بالتطبيق .